السبت، 26 فبراير 2022

عن: الموت في جيب الكناية



☆ الموت في جيب الكناية :

 استفهامات و إضاءات  لمكابدات فن القول الشعري الجديد.


   "إلهنا دلّنا على حقيقة الإنسان، الإنسان الذي يحمل في نفسه موته الخاص" . ريلكه

  "خطرة هذه المهنة، مهنة الشاعر، يفقد فيها الريش لكنه  يصنع الأغاني". 

  مالك حداد


يبدو أن هناك انتعاشة للشعر عندنا في وقت هاجر فيه كثير من المبدعين إلى الرواية(كتاب وحتى قراء)،وقد يعود الأمر في ذلك لاعتبارات خاصة مرتبطة بالاحتفاء المادي والتلقي الخاص، ومهما يكن فإن هناك ظاهرة نوعية لافتة استرعت نظري منذ فترة وهي بروز خطاب شعري "نسوي" متميز وواعد(شخصيا لا أقيم وزنا  لاعتبارات التفرقة الجنسية وان كان لكل فئة همومها الخاصة ذلك لأن الشعر بنظري هو خطاب إنساني محض بالرغم من ضوابطه وشواغله)، وهذا الخطاب تحققه وتجسده وتتشبث به كوكبة من الشاعرات عندنا من أمثال حسناء بن نويوة، ورزيقة بوسواليم

 وفريدة بوقْنة، ونبيلة بكاكرية وأسماء رمرام وغيرهن ( وقد لا تكون هذه العينة تمثيلية بالكامل) ، ولابراز طبيعة وحيثيات هذا الحراك الشعري ومن أجل  الاصغاء لاصواته و متابعة تعبيراته والتعرف على شجونه ومكابداته ولافتاته و مساءلة حركته سأحاول أن أقرأ(بقدر مايتيحه لي الفضاء الأزرق من امكانات القراءة)عملا ابداعيا نموذجيا وتمثيليا للشاعرة☆أسماء رمرام☆

موضوعه " الموت في جيب الكناية " .جاءت الشاعرة اسماء الشعر من وسط علمي خاص فهي صيدلانية تتعاطى مع صناعة الدواء وتسويقه و بعد أن منحتنا الدواء الكيميائي  في هذا الوضع التاريخي المرضي المستعصي والذي حاصرتنا فيه الكورونا وأطبقت علينا وأصبح فيه الموت هو الظاهرة الملازمة ليومياتنا هاهي شاعرتنا وبلمسة انسانية لا تخلو من نعومة تسعى لبلسمة جراحاتنا واوجاعنا باسم الشعر وترياقه اللغوي.

في مستهل الديوان يتحرك الاهداء (وهو دليل وبيان) بمقتضى مركب رباعي يشخص الحالة النفسية:الذبول/ النسيان/ الاهمال/  الزفرات وهي مفردات تشي بالشجن والاحباط والتشاؤم. وعلى الرغم من هذه الحالة الأسيانة فإن الديوان في جوهره لا يفقد كلية روح الاصرار والأمل والدليل هذا الإنجاز اللغوي في ذاته والذي بمقدار ارتباطه باليومي المعيش VECU و اوجاعه وانكساراته وشتى أثلامه فإنه يتطلع بعناد للآتي الجديد والواعد واذاكان ريلكه في عرف بعض الدارسين هو شاعر الفقر والموت فإنه من الجائز المجاهرة بأن شاعرتنا هي شاعر ة الموت والأمل او الموت والحياة. وفيما يلي بعض الملاحظات التي ترصد بعض المواصفات والدلالات الفكرية والفنية لهذا العمل الإبداعي:

أولا/ يحتوي المتن 18 قصيدة فيها نصان يشيران إلى كتابة مشتركة(تقاسمتها مع المبدعة حسناء بن نويوة) وهما: وحيدة المساء ومريض هو الناي، وهو نمط كتابي مستحدث يفتح أمامنا أسئلة كبرى حائرة:هل بالإمكان أن يكون هناك تقاطع تام في القول الشعري بين شاعرتين أليس الشعر هو بمثابة تعبير عن حالة شخصية فردية وذاتية سيكولوجيا وفلسفيا وفنيا، وماهي حدود وطبيعة مساهمة كل ذات بمعزل عن الاخرى؟ وهل من الممكن أن يكون هناك تماهي بين شخصين مبدعين في الثالوث: الهوية الفردية / اللغة /الوجود ؟ وقد تكون الفرضية التي يمكن تقديمها في التسويغ الكتابي هي وجود عناء ومكابدات مشتركة بحكم وحدة الوضع الوجودي القائم، أو القيام بكتابات تجريبية مشتركة بغرض الارتقاء بالعمل الإبداعي.. 

ثانيا/يتضمن المتن الدلالي للديوان جملة من المشاغل  التي تستحث وتستدعي أسئلة القلق الشعري وتقف-في هذا السياق-

مفردة "الموت" بمثابة دليل ولازمة فكرية مركزية باعتبارها همّا رئيسيا كل ذلك كاستجابة للراهن التاريخي-الاجتماعي (اقترانها بالكوفيد مثلا ) ، وتتضمن النصوص من جهة  أخرى جملة  من الاحالات لمفردات تعبر عن الاوجاع والهزائم النفسية والاخفاقات التي تعانيها النساء(على وجه الخصوص) وهكذا تتناسل وتتعدد المعاني التي تتدثر البعد الانطولوجي للذات مثل القلق، المعاناة الوجع،الجراحات،

ومن جهة أخرى وعلى الصعيد الدلالي-اللغوي يبدو العمل الإبداعي ذا سمات تجريبية  تشتغل باللغة وفي اللغة  و من أجلها و قد استخدمت الشاعرة مفهوم "اللعب بالكلمات" وهو مصطلح فلسفي يعود للفيلسوف التحليلي الشهير "لودفيغ فيتغنشتاين"، وقد يكون المقصد هو دفن عالم لغوي زائل لتأسيس عالم جديد على أنقاضه وفتح فضاءات وصيغ تعبيرية ومفاهيم.  وبالامكان هنا أن نقرأ الديوان بمجمله بمثابة بيان جديد لزمن شعري جديد وهو طموح للتجديد، ومن جهة أخرى نلاحظ أن الشاعرة قد  أرادت التوحيد بين المحلي والعام وفتح ورشات تجريبية للغة عامة واحدة تذوب فيها شتى الفروق والانسدادات(لا حظ قصيدة " قسنطينة " ومفرداتها المحلية:قْندورةالفرقْاني، محزمه لويز، حلوى الجوزيه..)

ثالثا/ ينافح الديوان عن قصيدة النثر وعن أشكال التعدد التعبيري مثل الركون للنص البرقي(جيوب بلغة الشاعرة) وهو نص يتضمن لافتات وعناوين دالة واستبصارات ايحائية تمتاز بالقصر والكثافة دلاليا وجماليا وهي استخدامات رهينة عصر السرعة ومتطلباته التي تنأى عن النص العمودي البطيء بصورتيه العادية والملحمية.

رابعا /  يتكيء النص الشعري ويتحصن  بالثقافة  السائدة وخاصة في رافدها العلمي وعلى الرغم من أن عددا من الشعراء العرب المحدثين قد أتوا من اوساط علمية(علي محمود طه و ابراهيم ناجي مثلا) الا انهم لم ينقلوا المفاهيم والمصطلحات العلمية إلى حقل الشعر. ونلاحظ أن شاعرتنا هنا لا تتردد في نقل واستعمال مصطلحات ومعادلات وأسماء صناعية( الهندسة المدنية، الفيزياء MC^2=E ،عطرSI، كوب الشيكوري....)  و افترض من جهتي أن هذا الاستخدام والاستثمار يندرج في سياق الإشكالية المركزية التي يتحرك بمقتضاها الهمّ الشعري العام للنصوص والتي تسعى لتجسيرالفجوة بين اللغة/الوجود، الواقع/الانسان الذات/الموضوع

 ولا غضاضة عندها عندما تتحدث وتشير إلى نصي صديقتيها حسناء بن نويوة ورزيقة بوسواليم مثلا من أجل الانصهار في الزمن الشعري الخاص والذي يتمرد على العوائق الموضوعية والحياتية  ويكون ذلك بغرض خدمة الشعر وتجديده عن طريق تغذيته باليومي وشحنه بكل الطعوم والمواد والمحفزات والتوابل العلمية  وهو أمر لافت في هذا الخطاب الشعري الذي يراهن على جماليات مغايرة

خامسا / تتحدد البنية الموسيقية للنصوص وفقا لايقاعات داخلية وهي ايقاعات خافتة  تقترن بحركة النثر ودواعيها وهي موسيقى ذات جرس جنائزي..


الدكتور عبد الباقي هزرشي.

أكاديمي وباحث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق