الأحد، 5 مارس 2023

عن: الملح يلفظ ليله


   انشداد الشعر إلى العذوبة الآسرة

  قراءة في المجموعة الشعرية"الملح يلفظ ليله" 

.للشاعرة الجزائرية أسماء رمرام


سامي المسلماني / تونس




لم أؤمن يوما بالتصنيف الجنسي للأدب، فمن المغالاة تقسيم الأدب إلى أدب ذكوريّ وأدب نسويّ،لأن الأدب إنساني بامتياز، ولذلك يرفض أغلب النقاد مصطلح"الأدب النسويّ" منذ نشأته الأولى في مهده الغربي، لكنّ هذا لا ينفي أن بعض النصوص النسوية تتمتع بخصوصية واضحة، ويبدو ذلك جليا في مجال الكتابة الشعرية خاصة. فلا أحد ينكر  أن الشعر النسويّ يزخر بطاقات إبداعية مميَّزة، إذ أكاد أجزم أحيانا بأن الشعر أنثى وبأنّ الأنثى شعر ينساب مفعما بالعطور المتنوعة والأخّاذة، فيبعث في القارئ لذة مخصوصة،وربما هي تلك اللذة التي تحدث عنها "رولان بارط"، ويكون ذلك كذلك عندما نربطها بالتعامل مع تلك النصوص ومحاورتها فكم هو ممتع أن تحاور روح امرأة شاعرة وذاتا أنثوية مجنحة،وكم هو ممتع أن يكون النص الشعريّ جسدا حيّا ينبض بالحياة ويضجّ بالغواية والعشق والشوق...! وفي هذا الإطار يمكن تنزيل مجموعة"الملح يلفظ ملحه" للشاعرة الجزائرية أسماء رمرام. 


"الملح يلفظ ليله" مجموعة شعرية صدرت سنة 2021, عن دار خيال للنشر والترجمة. تبدأ فتنة هذه المجموعة منذ العتبة الأولى، وهي العنوان،الملح يرتدي اثوابا رمزية عديدة فهو وإن كان يتصل بالمرارة والعطش فهو يرتبط أيضا بمعنى الجوهر والأصل، فتقول ملح الارض ونقول ملح الوجود ونقول ملح الحياة، الملح في وجه من وجوهه هو الحياة،بل هو جوهر الحياة. وهل من حياة دون جسد؟!. 

                                          


إنه الجسد الذي يتخلّص من ظلامه، يلفظه، يطرده، كي يضيء ويشرق،وقد لا يكون ذلك إلا عبر الشعر وبالقصيدة تنبع من أعماق الروح الجسد أو قل الجسد الروح فتفك إزار الليل ويتنفس الصبح في دهاليز الذات المأزومة. إنه استدعاء للشعر البلسم لتضميد الجراح و استحضار للبوح الشافي  يخفف من وطأة الانكسار والألم.... هكذا شعرت بالعنوان وشعر بي وهكذا ذهبت به وذهب بي وأنا أقرأ النص الأول الذي يحمل عنوان المجموعة. الشاعرة تعود بالشعر إلى ذاتها  أو هي تحاول إضاءة هذه الذات المظلمة التي أتعبتها المسافات وخذلتها الاتجاهات وتملكتها الحيرة فغدت أمطار الغيمة أسئلة. تقول:

أعود إليّ

وما عدت أعرف أيّ الجهات

تقود إليّ

ولا عدت في الحب أحمل بوصلة

أو أشاور حدسي

وما عاد في أرضى المستغيثة بالماء

نهر

ولا في سمائي الغريبة قطر

ولا في تخوم المجاز دليل

يسلي اليباس الذي في عروقي

ويرجعني

غيمة للسؤال....

وتتواصل الفتنة عبر الايقاع الذي يسري في أغلب نصوص المجموعة شفافا منغما ،ولكن ذلك لا يعني أن الشاعرة احتذت الايقاع التقليدي عبر أوزانه وبحوره احتذاء،وإنما هي نوعت في إيقاع نصوصها،فالتوزيع البصري والسمعي لنصوصها يحيل على شعر التفعيلة ولكنها لم تلتزمه في كامل نصوصها وإنما هي عمدت في أحايين كثيرة إلى كسر الايقاع وتحطيمه وقد بدأ ذلك متلائما إلى حد ما مع مايسود اغلب نصوصها من انكسار نفسي وجداني، ومايدل على ذلك ظاهرة التدوير التي شملت تفعيلات:فعولن و متفاعلن ومفاعلتن، وبذلك غدت نصوصها أحيانا مراوحة ممتعة بين الوزن واللاوزن، وقد ساهمت هذه المراوحة في الربط بين الأسطر الشعرية فزادت في إحكام النسيج التركيبي الداخلي... بيد أن كل ذلك لا يخفي احتفاء الشاعرة بالموسيقى  التي بدت في بعض نصوصها جلية واضحة،حتى أن القارئ المنصت يستلذّ ذاك النغم الشجيّ وكأنه يستمع إلى "سوناتا" ممتعة. صحيح أن الشاعرة لم تلتزم التزاما كليا بشروط السوناتا كما كتبها الشعراء الغربيون والعرب، فهي لم تعتمد ذاك التناسق الصوتي بين أربعة عشر بيتا بصورة حرفية ولم تلتزم بالنظام المقطعي الثلاثي أو ما يسمى ب"الحركات الثلاث" وهي عبارة عن انتقالات نغمية متنوعة ترد في قالب موسيقي مغلق. ولكنها احتذت ماتقوم عليه السوناتا من تقطيع للمادة النغمية ومن تنويع للقوافي ومن اعتماد لتزاوج العناصر الإيقاعية وخاصة منها الجناس الذي أضفى على نصوصها إيقاع داخليا تظافر مع الايقاع الخارجي لتشكيل قطعة موسيقية جميلة.

                                        

                                       

تقول في نص"أشواق الريق" :

قولوا لمن

أحيا البكاء بخاطري

من أيّ نهر ترتوي شفتاك؟

من أيّ ثغر ترشف الريق الذي

لا يكتفى من شوقه

لعراك؟

هذي القصائد حلوة محمومة

في صوته

إذ يستلذّ غناك

نار إذا ما أقبلت في حرّها

شرقية

تأتي على دنياك

ريح إذا ما حرقة عصفت بنا

غربية

بردت بها يمناك....

ص(37-38)

وربما أبرز مايربط بعض نصوص أسماء رمرام بالسوناتا هو تلك الغنائية التي تخاطب الوعي الذاتيّ أو - بلغة أخرى-الصراع الذاتيّ إذ لها إيقاع مخصوص تتولّد منه نظرة أو رؤية ذاتية ووعي ذاتي يعبّر عن ذات إنسانية تعيش صراعا وجدانيا أو تجربة نفسية مريرة...

ولعلّ هذه الذاتية البارزة ما يجعل نصوصها - بحق-صادقة إلى حد النخاع،بل إن نصوصها تقيم مع القارئ علاقة حب وغرام، فإذا القارئ عاشق وإذا بقصائدها حسناوات تتغنّج.

 

يقول رولان بارط:"إنّ كل نص يُقرأ بلذة يعني أنه كُتب بلذة" وهذا فعلا ما نلمسه في شعر أسماء، فهي تستحضر اللغة في بهائها الأول فتحتفي بها وتحيي الهرم منها فيعود نضرا شابا، فنستقبل كلمات من قبيل"المعصرات، العرى، القطر، السنى...." فتأنس بالكلمات المعهودة في نسيج لغوي متين.فنجد أنفسنا إزاء صور بديعة مبتكرة في آن. الشاعرة لم تعتمد في صورها على علم البيان التقليدي فنحن نكاد لا نصادف تشبيها وإنما نصادف في كل حين تصويرا يعتمد بالاساس على التشكيل اللغوي القائم على الانزياح ،فيبدو أن الشاعرة لم تعد تؤمن بأنّ البلاغة القديمة القائمة على الإحالة والعدول المحدود المصدر الأساسيّ للصورة الشعرية، ولم يعد يعنيها أن تنصهر صورها في بوتقة الواقع و أن تتناسب معه مثلما تنصّ عليه البلاغة القديمة، وإنما هي تنشئ صورها كي تتناسب مع واقعها الذاتي الصرف، فصورها لا تعدل إلا إلى عالمها الداخليّ،فتشي بكون باطني خبيء، وبنفس مجهولة المعالم، وبذات ترقص في الضباب... فالصورة إذن في شعر أسماء رمرام شديدة الارتباط باللغة ونسيجها في تحررها وانطلاقها،وقد اعتمدت في ذلك بالأساس على الاستعارة،ولا يخفى هنا ما للاستعارة من رحابة فنية تسمح بتناول اللغة تناولات متنوعة ولا حصر لها، ومن بين هذه التشكيلات اللغوية الاستعارية قولها"غيمة للسؤال،مشي أنيق يمد سناه، أنا امرأة فلتكن للأنوثة طلا وماء، احتياجات أنثى تغرّب كي تحبس الشمس في غرفة حين تبكي تشرّق، عفا الله عن صمتنا إذ يذوب...."

                                           

وما يلفت الانتباه أن جل صور الشاعرة تدور حول تيمات أنثوية شديدة الخصوصية، فهي- بحق- تصور ذات الأنثى في تقلباتها الشعورية والوجدانية اللامتناهية،لذلك كانت صورها شديدة الثراء والتكثيف، وأضافت إلى كل ذلك البعد الترميزيّ،وهو بعد يتّصل أساسا بلغة الجسد أو "الايروتيكا" فاللانثى جسد يحتاج إلى الحب مثلما تحتاج الارض إلى الماء،والأنثى كيان روحي مادي تتوق إلى الكحل وقمصان النوم ورجفة النهد.... والأنثى "من غير شعر مساحيق بلا معنى عميق"، والأنثى حب يتمازج فيه كيميائيا الجسد بالروح. تقول الشاعرة:

....وأن الكحل لولا الروح لولا

تماهي لونها الحر الطليق

لما كانت لرونقه حياة

ولا لبهائه النبض الحقيقي.

ص(34)

والأنثى رجل يتماهى معها جسدا وروحا

"يشم على مهل عطرها

ويوقظ في الليل أغنية

من حرير ونار

يغازل أثواب قطن تدلّت

على ركبتيها

ويمهلها ليله كله

كي ترمم ماقد تمزق في جوفها

من نسيج الأنا..."

ص(36)

                                

في مجموعة"الملح يلفظ ليله" افتتان بلغة الشعر القديم ولكنّ ذلك لا يخفي تطعيم القديم بالجديد ممّا أضفى جدّة وطرافة

ساهمتا في سبر أعماق الشاعرة بصورة صادقة وشفافة، وقد توسّلت لذلك الشاعرة إيقاعا مخصوصا لانه ذاتي غنائي فاقتربت من فن السوناتا ونهلت منه، واعتمدت على صورة مجنّحة عميقة وترميزية استحضرت من خلالها شيئا من إدانة للرجل العربي الذي لم يقترب بعد من تخوم الذات الانثوية بأبعادها النفسية الثرية ،ولم يتقن بعد لغة الجسد، ولم يفهم بعد تيمات الروح الحسناء.... القصيدة في "الملح يلفظ ليله" ترتدي فستانا وتتغنج رغم أنها تخفي دموع الماضي ومرارة الذكريات وجناتها، إنها جسد حيّ يتمرغ في الحرير ويقفز بين السكاكين، تغني وتبكي وتدعو الآخر إلى الحب والخير والسلام... وربما لكل ذلك تجنح نصوص أسماء رمرام في فضاءات الإنسانية رغم ايغالها في الذاتية.و بجمعها بين الذاتي و الجماعيّ تمكنت من بذر عذوبة آسرة في كل قصائدها.

                                               


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق