السبت، 8 أكتوبر 2022

عن: الملح يلفظ ليله

 يزهر الملح في مزارع الغموض والقلق والمجاز ، يمد مساحات شاسعة المذاق شديدة الطعوم تفوق حاسة اللمس والشم وباقي الحواس إلى ما لانهاية مذاقات اللذع والحدية عند اختبار التذوق ومتعة التجريب ، نعرف أن للملح أهمية حضور تاريخي عبر العصور القديمة حيث كانت قيمته تعادل الذهب في بعض الحضارات، وهو كمادة مهمة تضاف للطعام لإبراز النكهة وتعزيزها ، توازن بين مختلف المواد المستعملة عند إعداد الوجبات وبها يتم تحصيل لذة الأكل بحضوره الضروري في أغلب الأطباق حتى الحلوة منها مثلما يفعله بعض طهاة الحلويات.

عندما يُكتب الشعر بطعم  مملح ومعتدل تبرز للأبحر تفعيلاتها وأوزانها على سواحل الخيال أين لا حدود للسباحة والمغامرة ضفة من بعد ضفة ، تتهادى الكلمات على سطح المياه فتبدو مثل سمكات رائقات تلتمع عيونها في خطفة الضوء ، تنير عمق الليل وتصدح بالغناء وبالقصائد.

يكتب الشاعر نصه ثم يتركه ليكمل اختماره كعجينة الصباح لا تطلع عليه الشمس إلا بشروق كامل ، ثم إن الشعر مرآة كاتبه وكاشفة مباغتاته الفعلية مع الورقة في رحلة النزف حتى آخر حبة ملح تتبخر مع عرق المداد.

" الملح يلفظ ليله " عنوان مكتظ مشحون برغبة البوح بأن يفرغ حمولة البحر والبحيرات على كفوف نصوص تتراوح بين الأنا والآخر ، بين الحب والوطن الرغبة والعشق وما يلازم الروح العاشقة من قلق المسير غير ثابتة الخطوات في متاه الحياة ، بين أقصى درجات التمام ثم النزول بها أقصى مدن الشتات ، روح المبدع هي هكذا تمشي على أرض الزلازل المتحركة ، هل كانت يوما بدون مخاض وبدون أن تلفظ بواطنها ما تخبئه جيوب الكلمات ؟

بهذا تباغتنا الشاعرة أسماء رمرام في ديوانها الملح يلفظ ليله ، عنوان إيحائي مركب ، يتركنا نتساءل ما علاقة الملح بالليل وكيف يتقيأ الملح ليله على كتاب يمتد على شاطىء حبري بطول 72 صفحة؟

تفتتح الشاعرة ديوانها بمقطوعة شعرية للشاعرة السودانية روضة الحاج ،

يزيد يقيني في كل يوم 

بأني كعود الثقاب الذي لن يضيء

سوى مرة واحدة

فكن هذه المرة الواحدة.

هنا تعاضد المرأة امرأة من ذات همها وتكوينها الحساس كأن المرأة كائن لا ينفصل عن صفاته وإن تعددت أشكاله ، يبقى هذا الكائن السهل الممتنع يحمل نفس الهواجس وان اختلفت توجهاته في الحياة وتباينت بيئاته وتنوعت تضاريسه البيولوجية.

الإهداء جاء في كلمة واحدة مختصرة 

"إليه."

من هو ؟ وحدها الشاعرة أسماء رمرام تعرفه وكقراء يحق لنا التأويل قد يكون الشريك ، أو إنه الشعر أو أي شيء آخر مذكر تعنيه ويهمها أن يكون له حضور مختزل وأثيري مثل هذا ، ( إليه )

يبدأ الديوان بالنص الذي يحمل عنوان الكتاب 

الملح يلفظ ليله.

تقول الشاعرة 

يا أيُّها الملح 

كم عمرنا في المسافة 

كم ليلة جمعتنا معا

وكم كأس شاي شربنا

كم قبلة لملمت بردنا 

وكيف استطاعت عراه الحبيبة

أن تلفظ الليل والذكريات؟

تساؤلات تطرحها الذات الشاعرة تاركة إياها دون إجابات وهي تستغني عنها فقد ناب الملح عن طرحها ولملمت القبلة بردها دون معرفة عمر المسافة الفاصلة بينها وبين هذا الليل الذي يجمعهما معا وهذه الذكريات.

في نص آخر تحت عنوان الحب ، تذهب الشاعرة إلى الريح الخافقة الشفافة تقيس بها وزن الحب وهشاشته ، تدعو الحبيب وتحثه إلى الذهاب مباشرة إلى حبيبه مثل الريح تماما عندما تذهب للأشجار فتلقح الأغصان ، تطالبه بالكلام وأن لا يجنح للصمت ، الحب يحتاج ركوب الموج وإلى روح مغامرة وأيضا إلى الفعل الصريح والاقتراف الجميل.

/

إذا كان وزنك في الريح يخفق 

حبا 

فلا تتملّ السكاتْ

وقل للحبيب إذا ما رأيته 

أهلا 

ولا تكتم الخفقات.

نص آخر تستحضر فيه الشاعر العربي الغني عن كل تعريف محمود درويش كان تحت عنوان درويش دفء الشتاء ، 

الحنين يغمر الشتاء والشعر بعودته إلى أحد أعمدته الراسخة في ذاكرة القارئ ، فصل الذاكرة بامتياز تستيقظ معه الألحان في قلب عاشقة تتوحد بفعل القراءة مع شاعرها وتستقطب روحه الماثلة في كينونة القصائد، فهي المتمرسة الجامحة في لعبة القول و الحياة.

/

كانون يا سادتي بغير القراءة 

قاس كما تعرفون 

رعد وبرق وريح وغيم 

جوارب تحت النعال

ومدفأة للصلاة الأخيرة 

في أول الليل

وكوب من الشاي 

يعرف أسراره العاشقون.

هي العاشقة تلملم أطياف الجمال وتعانق روحا سافرت ذات غيمة غياب ، لكنها ما تزال تشرق مثل شمس أبدية في قلوب مريديها وعشاق مسلكها الشعري. 

شقوق السؤال نص آخر ضمن مجموعة نصوص وعناوين تسافر بالمتلقي في أراضي الشعر الخصبة ، شعر التفعيلة وأوزان الخليل وهو ينساب نهرا صافيا رقراقا من روح شاعرة لها بصمتها الشعرية وتجربتها المتنوعة بين كتابة النثر وشعر التفعيلة وكذا القصة القصيرة، 

تقول 

المكان يراوغ أحذيتي 

أعود إلى زمني في القصيدة 

ألبس نعل الخيال الذي 

في شقوق السؤال.

احتكاك الأحذية بالأمكنة التي تزورها قصدا تطؤها الأقدام لكنها مسار للمشاعر ومسرح للغة و الحنين يحدث دائما حميمية تعود بالشاعرة إلى زمن قصيدتها المتآلفة معها ، زمن الكتابة والاستناد إلى الخيال الذي يقود قاطرة الكلمات نحو معناها ،  

تواصل بلهجة السؤال 

لماذا تحن 

وأنت الذي في المدى جئت لي بالسراب ؟

لماذا تركت الحديقة عطشى؟

هكذا تتهاوى مطارق الأسئلة محدثة شقوقها 

إلى أن تقول له

أنا امرأة 

لي ككل النساء عبير

وبوصلة 

واحتياجات أنثى.

إنها المواجهة عند حافة الحاجة تقف لتعبر عن رغبة كل أنثى في الحب والاحتواء.

تكتب أسماء رمرام  الشعر متمكنة من أدواته بلغة شاعرية شفيفة ، تنساب إلى متلقيها انسياب الماء في عروق مجاريه ، هادئا ومتناغما مع عذوبة بحوره ، شاقة دربها مثل وردة بين وردات الشعر الجزائري والعربي ، تاركة عبيرها لأجيال ستأتي وتقرأ وتحكم على صدق وأصالة التجربة النابعة من حب اللغة وخوض غمارها عبر مسالكها المتنوعة والمتقاطعة مع تجارب كثيرة.



الملح يلفظ ليله ديوان شعر للشاعرة أسماء رمرام صادر عن دار النشر خيال وقد قدمت له الأديبة نائلة الشقراوي بمقدمة بديعة لملمت فيها خيوط تجربة الشاعرة في ديوانها هذا.


رزيقة بوسواليم /

شاعرة جزائرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق