لها: (في القصيدة مشيٌ أنيق
يمدّ سناهْ).
والمشي هو السيرة والمسيرة والأثر. الأثر الذي تتركه شاعرة تدعو للحب والحياة وتنطق عنهما شعرا وسحرا مُغنّى. أما الأناقة فهي المبنى الذي يتثنى بالمجاز والرمز فيتجلى بعد إبهام وغموض وتتبدى صوره الشعرية كالصحو بعد غيم ،وهي التي تقول: (أنا في المجاز أرطّب صوتي
فينشق نايٌ
وينمو نخيلُ).
تضعنا: في مواجهة مع ثنائيات وأقطاب، تنافر وتقارب، الصمت والبوح، العشق والرغبة. وتحثنا على البحث عن جهة خامسة بوصلتها ثابتة لا تتغير وعن أرض يتقيأ ملحها ليله متخليا عن سواده الكامن وشوائبه. لكن أين هذه الجهة الخامسة وأي الطرق تؤدي إليها ؟ السؤال جوابه لدى من انتطقت القصيدة ومن أضاءت حيرتها دروب الشعر فكان الديوان (الملح يلفظ ليله) حجة وبرهان الشاعرة أسماء رمرام على أن الحب هو الوجهة الخامسة لمن لم يهنأ بالجهات الأربع الباقيات. الجهة التي تمثل الملاذ الآمن للإنسان الكوني الذي وإن بدا مختلفا فإن جوهره لا تعيقه الاختلافات ولا تحجبه حدود قد توضع كحواجز تمنع إنسانيته عن الإنطلاق والعيش كما ينبغي لها أن تحيا في عوالم من الحب الكوني. ويبدو أن الشاعرة أسماء رمرام في ديوانها هذا قد أرست قواعدها الثابتة على رُبى تلك العوالم وبدأت تخبرنا عنها في نصوصها فجذبت قارئها الى مجرتها المشفرة وحرضته على كشف أسرارها في متعة المتلهف للامتلاء الدائم ذاك الامتلاء الذي تحسنه وتبلغه الروح فقط وتنثره حولها فيختفي كل ماهو مادي وان وجد بمسمياته.
إن النص المختلف الناجح كما أسلفنا هو الذي يترك في قارئه أثرا لا ينتهي بالانتهاء منه وإنما يحلو الرجوع إليه وإعادة قراءته للحفاظ على منسوب المتعة بالنفس أو استرجاعها، وقد كتبت أسماء رمرام نصها وهي شديدة الوعي بذلك خاصة وأن ديوانها (الملح يلفظ ليله) هو الثالث أي أنه كتب في مرحلة نضج أسلوبي ومعرفي للشاعرة وقد كان جليا جنوحها المقصود الى التحديث بأسلوب ذكي، يقوم في بعض النصوص على مزج تفعيلات البحور ودوائرها في العروض مزجا في حالة وزنية غير عروضية يصنع إيقاعا جديدا لاتنفر منه الذائقة المدربة على البحور ونسقيتها ولكنه يفجر القيود الصارمة التي تلزمه بعددٍ تواترا وتتاليا. وفي هذا المزج في قصيدة "الملح يلفظ ليله" مثلا يميل إلى المتقارب ووزنه (فعولن فعولن فعولن فعو(ل)(ن)) وهو مزج فني بين قديم مألوف وجديد يسعى إلى توطيد أركانه دون أن يهدم المعبد بكامله فيبنى النص على قاعدة الأوزان القديمة وبنية إيقاعها حديث.
أما نصها "جروح الروي" فيبرز قلق الإيقاع العروضي (الوزن) تشده القافية (الروي) كأن النص بني أصلا على رويه (الياء مع الفتحة الطويلة عادة فهي لازمة الإيقاع يعود إليها النص ليشد أركانه لفظا ومعنى وإيقاعا فالإيقاع في تكراره وتردده على مسافات مختلفة ومعنى بالعودة إلى المتكلم عادة (إليّ عليّ شفتيّا ..).
وتعود بنا أسماء رمرام إلى رقصة الروح والتثني في نصها "تعال" الذي يترك الأوزان بقيودها باحثا عن خفة الإيقاع الداخلي النفسي بعيدا عن إيقاعات النص الظاهرة وإن كانت تلوح في بعض الارتكاز على روي يتردد بين حين وآخر (النعال / الخيال/ السؤال /الرمال). نصها هذا يقف بين شعر التفعيلة (بدايات الشعر الحر) وقصيدة النثر، مما يجعل القارئ يعيش الحالة التي تشعره بها الشاعرة في كثير من الدهشة والوعي.
هذه المحرضة على الحب هي شاعرة لها من الكلمات الغائرات ما يكشف أسرار رقصة الروح وإن قالت في نصوصها غزلا فلا أظنها تسقط في ما يعنيه ظاهر معنى الكلمة بل المؤكد أنها تستخدم هذا الغرض فيما هو أسمى وأكثر علوا. ولنا في نص "أشواق الريق" مثال فهذا النص، نص من بحر الكامل وقافيته الكاف وتفعيلات الكامل هي متفاعلن متفاعلن متفاعلُ(ن) وهو مكتمل كمالا شعريا من جهة وزنه وإيقاعه المتناسق مع المضمون فيه معاني الغزل وتعبير عن الحب بعواطفه المتأججة وبوح بالشوق الحارق القاتل وفيه معنى التعطش للوصل (القبلة: من أي نهر ترتوي شفتاك) وبين حروفه التعبير المباشر عن الشوق وخوف البعد والتحول إلى حب جديد (قل لي بربك هل تعود لوصلها
أم في الغياب تغيرت عيناك). بهذا البيت حرارة الشوق ومرارة الحيرة وقلق البعد وضنى الهجر مع رغبة شديدة في الوصل واللقاء فالعاشقة تتلظى على نار الحيرة ونار الشوق وينكشف هذا المضمون في صيغ تخالف المألوف من الغزل فالمخاطب مذكر لا مؤنث وما عرف الغزل بالمذكر إلا في حالتين أن يكون الشاعر رجلا أو حالة من أحوال المتصوفة الذين يناجون الخالق روحا كونية يطلبون فيها حلولا ومعها اتحادا وكلنا يعلم أن ابن عربي ترجم شطحه الصوفي وتوقه للروح الكونية في غزل رقيق ،وبالتالي فإن حالة العشق في نصوص الشاعرة تضاهي في عمقها وقوتها العشق الصوفي والحب كما قال نزار قباني "تصوف وعبادة ". ولعل جرأة شاعرتنا وتفجيرها لقانون الصمت (لنا في الحكاية صمتٌ شفيف
ولي في الحقائب أسلوب أنثى)
الذي يمنع المرأة عادة عن البوح بمشاعرها الصادقة يخبرنا عن رؤاها المختلفة عن الحب والحبيب فهو الكمال والمثال ( تعال توسّد زنود الفراشة
إن حلّقت، رفعتك ملاكا) والمثال هو المعنى الخالص للصفاء وللجمال لذلك اتحد المبنى والمعنى في قصائد (الملح يلفظ ليله) للوصول بنا إليه وليزيدنا قناعة أن قصائد الديوان كتبت لتكون على مبدأ أسلوبي مهم وهو أن الجمال روح الشعر فلا بد إذن أن تجتمع كل عناصره بين الكلمات وليس هناك أبلغ من الإحساس الذي يعطيه الحب والجمال للشاعر. لذلك يمكننا القول أن أسماء رمرام امتلكت الشعر بعد أن امتلكت مفاتيح الإحساس العالي بالجمال حولها فكان الاختلاف الذي صنع منها الشاعرة أسماء رمرام ،بعد أن خبرت قدامة أوزان الخليل في نص وشعر التفعيلة في أكثر من نص إما بالتصرف في الوحدة الإيقاعية (فعولن ) أو في مزج التفعيلات العروضية والمراوحة بينها (مفاعلتن وفعولن) وهما تفعيلتان نجدهما في وزن واحد عند الخليل هو وزن بحر الوافر ونجد أعلى جانب هذين اللونين الإيقاعيين إيقاعا ثالثا هو توقيع قصيدة النثر المتحرر الذي لا يراعي توازيا في الكم الصوتي الإيقاعي ولا في تواتر المقاطع البانية للتفعيلة ولكنه يشد أواصر النص بإيقاع بعيد هو الروي الذي كان جريحا في أحد قصائدها بداية من عنوانه.
-نائلة الشقراوي-
أستاذة أدب مقارن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق