بقلم: حنان بركاني
***
لفتني ذات يوم عنوان " حليب أسود" رواية الكاتبة التركية " إليف شفق" و رغبتي الشديدة في قراءته كانت لاكتشاف كيف يتحول الحليب إلى أسود، وأذهلتني تلك الرواية وتلك التجربة الساحرة التي مرت بها الكاتبة (اكتئاب ما بعد الولادة) ، وأنا أقف أمام التساؤل نفسه أمام عنوان : " الملح يلفظ ليله" لأنه يمنح للملح بعدين ، الأول يتعلق باللون كما الحليب (الأبيض) بإضافة لون معاكس له، والبعد الزمني: إن كان للملح ليل فإن له نهارا ؟ ولماذا يلفظ ليله تحديدا ؟
الملح ورغم طعمه الذي لا يمكن أن نفرط في استهلاكه يبقى مطهرا للجراح وطاردا للطاقة السلبية في حكايات الجدات والامهات.
واعتقد أنه عنوان ذكي فيه بعد جمالي، هذا هو العنوان الذي وسمت به أسماء رمرام ثالث عمل لها في الشعر.
واستهلته باهداء بقدر بساطته واختصاره يأتي مفتوحا على تأويلات عديدة: إليه. ثم نقطة تحسم بها إهداءها كأنها واثقة تماما ومدركة أن العمل " له" وحده فعلى من يعود الضمير الغائب هنا؟ شخص؟ ألم؟ حرف؟
وتنتقي بعناية العتبة التي تفرش عليها لاحقا نصوصها:
يزيد يقيني في كل يوم
بأني كعود الثقاب الذي لن يضيء
سوى مرة واحدة
فكن هذه المرة الواحدة
ودعني أضيء بحقلك ليلا
فوحدك تملك سر الثقاب
الذي قد يضيء
ل: روضة الحاج
وهي عتبة تحمل جانبين متضادين جاءا امتدادا للعنوان كأنها بصدد تصميم عقد: عود الثقاب الذي يضيء (الضوء/ النور)
حقلك ليلا (الظلام/ العتمة)
أي نحن نتمرج بين ماهو جلي واضح، وماهو خفي غامض، بين حالة انكسار توقعنا في حجيم السواد، وأمنية الخلاص التي لخصتها بائعة الكبريت في قصتها وهي تعاود إيقاد عود ثقاب لتتخلص من برد الثلج. وان شئنا قلنا أنه تمثيل رائع ل (طقوس العبور rit de passage) من حالة إلى أخرى، ليست حالة عاطفية إنما نفسية واجتماعية. الحالة التي يكون فيها الملح في البداية ممتلئا بليله وما يصاحب الليل من أسرار واعترافات وآلام إلى النهاية المتمثلة في الصبح المضيء الأبيض الذي قد يمثل الحكمة أو النضج أو التقدير الذاتي المرافق لكل تجربة.
قدمت الديوان الأستاذة نائلة الشقراوي بتقديم عنوانه: المنحى الجمالي في ديوان (الملح يلفظ ليله) وختم الديوان بـ "سؤال الشعر" وهي قراءة للدكتور جاسم خلف الياس من العراق "قراءة في قصائد منتخبة للشاعرة أسماء رمرام"
بين القراءتين تحجز لنا أسماء تذكرة عبر نصوصها 22، وكل من يقرأ لأسماء سيجد قدرتها على خلق صور شعرية بالغة الجمال، أول نصوصها " الملح يلفظ ليله" هو نقل لحالة التيه والضياع التي تعيشها الشاعرة:
أعود إلي
وما عدت أعرف أي الجهات
تقود إلي
ولا عدت في الحب أحمل بوصلة
أو أشاور حدسي
وماعاد في أرضي المستغيثة بالماء
نهر
استعملت الشاعرة ما يكفي من الكلمات للدلالة على ضياعها: جهات، لا أعرف، بوصلة ، أرض ، حدس
وتأتي لاحقا لتخاطب من سبب لها خللا في حواسها وجهاتها، لتستنكر وتحتج على ما آلت إليه بسؤال:
...
يسلّي اليباس الذي في عروقي
ويرجعني
غيمة للسؤال
أتعرف أي الجهات تبلل شاعرة
أرهقتها
مواسمك اليابسات؟
تستلهم الشاعرة من الطبيعة حالاتها الشعرية لتمثل حالتها فتنتقل بنا من حالة اليبس والجفاف إلى الغيم والبلل
فبعد أن تصف لنا حالتها ، تطرح السؤال الذي ينجدها ثم تجيبنا:
أتعرف أني عثرت على صورتي
في جيوب المسافة
تحملها الريح
مذهولة
العود إلى الحالة الاولى نفسها، لأن الريح تذرو كل ماتجد في طريقها وتحمله بلا هدى. و بلا شك أن هذا الشتات ، هذه اللاجدوى ، حالة الانكار تسبب ألما لا يمكن مداراته بالأسئلة ولا تضميده بالملح، فيصبح هذا الأخير شريكا في الوجع لا أكثر:
يا أيها الملح
كم عمرنا في المسافة؟
كم ليلة
جمعتنا معا؟
و كم كأس شاي شربنا ؟
كم قبلة لملمت بردنا؟
وكيف استطاعت عراه الحبيبة
أن تلفظ الليل والذكريات؟
تواصل أسماء رمرام في نصوصها الباقيات عرض قصة الحب، والاشتباك الذي ينشب بين الحبيبين ، ولتفضه تستنجد بالسؤال:
لماذا إذن
حين تخرج مني خفيفا
تقبّح ما جمّل الحب في ليلنا
واصطفاه؟
إن القارئ لأسماء رمرام سيكتشف أنها تمثل الاشياء وتمنحها الحياة فالأشياء التي اعتدنا عليها ككلمات لا كملموسات تصورها لنا : أعود إلى زمني في القصيدة
ألبس نعل الخيال
كيف تعود إلى زمن القصيدة؟ لولا كون القصيدة مكان له امتداده الزماني ؟ وكيف تنتعل الخيال لولا الخيال مايمكن أن نرتديه ونمشي على سبيله .
تواصل الشاعرة اللعب على وتر الكلمات بتوظيفها بما يجعلنا نتساءل :
لماذا تركت الحديقة عطشى؟
لماذا سقيت الأكاليل صوتا
هو تقديم لصورتين على سبيل المجاز: لا تعطش الحديقة إنما نباتاتها
وهل تسقى النباتات بالصوت ؟
وان كانت صيغة الأنثى في اللوم والعتاب هي السؤال والتساؤل، فإنها تتعب سريعا و تقول ما تريد، وقدمت أسماء هذه الصورة العامة للنساء وجاء اعترافها بما تريد كالآتي:
أنا امرأة
لي ككل النساء عبير
وبوصلة
واحتياجات أنثى
تغرب
كي تحبس الشمس في غرفة حين تبكي
تشرق
كي تحبس الفجر في كأس شاي
إذا أزهرت في الصباح الوثير
تلمع مرآتها كل يوم
وتفرح في سرها بارتجاف السرير
إذا هزه الحب في ليلها المشتهى
وفي نص آخر:
أنا في المجاز أرطب صوتي
فينشق ناي
وينمو نخيل
ويورق في الصوت شوق الأماسي
إذا جن في البعد
ليل طويل
أليس الذي سقاه انهمارك كالماء
تسكبه السلسبيل ؟
فاغدق رعاك الإله رسيلا
وأقبل ففي القلب قول ثقيل
هذه الشاعرة التي تجزئ روحها على مدار النصوص وتكتب بلغة اللون قدمت نصوصا رائعة بين حب و شوق ، بين لهفة وصمت بين ليل ونهار بين فرح و حزن ، جاءت النصوص مؤثثة بهذه الثنائيات وسأضع مقتطفات في الصور المرفقة.
ومع أن النصوص كلها لا ترتكز على مكان معين باستثناء نص عن افريقيا ولا تنسب الوقت إلى زمن معين إلا أنها في نصها الذي أهدته للشاعرة حسناء بن نويوة وقعت جزائريتها بمقطع:
تعالي
فصينية القهوة العربية
تبكي
ومن دون عينيك ظل
يصلي
غريبية ، والفناجين تسأل
هل في الفناجين
يخفى السؤال؟
ونحن نعرف قدسية الضيافة في التقاليد الجزائرية بصينية النحاس ، والقهوة واختارت الشاعرة نوع الحلوى ( غريبية) .
^^^
نصوص مشتعلة بالأسئلة، تطفئها الحروف بالاعترافات و المشاعر بالبلل.
الملح يلفظ ليله هو وجه لامراة تزينت بالكحل لكنها لم تجد غير الدموع لتكتب حبها و شوقها وحنينها وبحثها عن الأمن والسلام، وجاءت صورة الغلاف اختصارا للجملة الأخيرة بعيون محجرها كله أسود، كأنها ترتدي أجنحة بيضاء.
شكرا أسماء على الكتاب ورقيا ، له سحره وأتمنى أن أقرأ لك مجددا

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق