الأربعاء، 29 يونيو 2022

لماذا نقرأ الأدب؟ /جوخة الحارثي

 

لماذا نقرأ الأدب؟ _ جوخة الحارثي

 

لا يمكن فصلُ الأدب عن الفكر، كما لا يمكن فصلُه عن السيكولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفةِ والتاريخِ وعلوم أخرى.

في لقاءٍ حضرته مع مجموعةِ من القارئات لمناقشة «سيدات القمر» في نسختها الإنجليزية، بادرتني إحداهن -وهي من جنوب إفريقيا- بهذا السؤال: "كيف أمكنكِ أن تكتبي عن شخصيةِ زوجي بهذه الدقة وأنتِ لم تلتقيه قط؟"، قلتُ لها: دعيني أخمن، هل شخصية زوجك تشبهُ شخصيةَ خالد في الرواية؟ فشهقت مرة أخرى، وقالت: كيف عرفتِ أني أقصد خالدا؟

وفي مناسباتٍ أخرى قالت لي أكثرُ من طالبة مغتربة إنها وجدت نفسَها في شخصية زهور في رواية «نارنجة».

لعل مثلَ هذه المواقف يعدُّ مكافأة للكاتبِ على كتابته. الكتابةُ شاقةٌ ولكن لها هباتِها، وهذه بعضُ الهبات. ولكني لا أرغبُ هنا بالتحدث عن الكاتب ومسرات الكتابة وأوجاعِها، بل عن القارئ، لماذا يعدُّ الأدب ضرورة؟ وكيف يجد القارئ أصداءً لحياته تتردد بشكل أو بآخر في كتاب أدبي ما، أو في روايةٍ بعينها؟


كان الأدبُ في عصر النهضة بأورپا مرتبطا بالبرجوازية وبالصالونات الاجتماعية والثقافية الراقية، ولم يكن الحالُ مختلفًا في الدول العربية مع انتشار الأمية بين عامة الناس، إذ كان الأدبُ نخبويًّا إن صح التعبير. وفي عمان حيث بيعت الكتبُ النفيسةُ بأغلى الأثمان كانت مباهجُ القراءة الأدبية مقصورةً في الأغلب على طبقاتٍ بعينها من الفقهاء والقضاة والأثرياء، ومن الساسة الذين أبدوا اهتمامًا ثقافيًّا سمح لهم بتكوين المكتبات واحتواء الشعراء.

بيد أن الأدبَ لم يعد نخبويًّا اليوم، لا في العالم عمومًا ولا في العالم العربي وعمان خصوصًا. ربما يكون لظهورِ الصحف والمجلات دورٌ في تغيير الأدوار وتعديلها، وكذلك اتساعُ آفاق النشر المحترف للكُتب وتسويقِها، غير أن الدورَ الحاسم َكان لانتشار التعليم وتحويلِ الأدبِ إلى مقررات مدرسية، إذ أنزل الأدبُ من نخبويته إلى طاولات الدرس وكراسات التلاميذ الذين تساءلوا : لماذا ندرس الأدب؟

إذا أصبحت القصائد ُوالقصص والرواياتُ وأجناسٌ أدبية عدة في متناول أيدينا، فما قيمتُها في حياتنا؟

لماذا نقرأ المتنبي أو شيكسپير أو طاغور أو نجيب محفوظ؟

في السنين العشرين الأخيرة التي قضيتها دارسةً ومدرِّسةً للأدب، واجهني طلابي دائمًا بهذا السؤال: ماذا نستفيدُ من قصيدة أو رواية؟

هل يُعلمنا الأدب؟

نعم، بكل تأكيد، الأدب يُعلمنا.

إن فكرةَ قياس "الإفادة" من العلوم الإنسانيةِ بنوع "الإفادة" من العلومِ البحتة، فكرةٌ غير مجدية. نحن نتحدث عن حقلين مختلفين من حقولِ المعرفة، فالتطبيقُ المباشر لمسألةٍ فيزيائية أو معلومةٍ طبية مختلفٌ كليًّا عن طريقة الأدب في تعليمنا: الطريقة التي تتجنبُ المباشرةَ في المقام الأول.

ربما نقول ببساطةٍ إن الأدبَ يساعدنا في فهم العالم، ولكنه في الحقيقة أكثرُ من ذلك. إنه الميدانُ الحقيقيُ الذي تتقاطع فيه معارفُ شتى. عندما أراد فرويد أن يطلق أسماءً على اكتشافاته النفسية التي عُدت حديثةً وقتها، مثل عقدة تعلق الابن بالأم وإقصاء الأب، لم يجد خيرًا من الأدب ليستقي منه، وهكذا ما أطلق عليه فرويد مثلًا عقدةَ أوديپ هو ما بسطه كاتبُ الأسطورة اليوناني سوفوكليس عن قصة الملك الذي تزوج أمه وقتل أباه، تحقيقًا لنبوءة، هذه العقدة النفسيةُ التي تُعد اكتشافًا حديثًا في حقلِ علم النفس، طرحها الأدبُ منذ أقدم العصور، وعمد فرويد لاختيار اسمها على اسم أوديپ بطل الملحمة الخالدة. لقد عرف الأدبُ هذه العقدَ النفسيةَ كما عرف تيارَ اللا وعي قبل فرويد، وبسطَ لنا الصراعَ الطبقي قبل ماركس.

لا يمكن فصلُ الأدب عن الفكر، كما لا يمكن فصلُه عن السيكولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفةِ والتاريخِ وعلوم أخرى. 

غير أن "الحمولة الثقافيةَ للنص تصل الى القارئ وفق خصوصية رغبته"[1].

إن الأدبَ يدربُ عقولَنا على المرونة، وعلى تفهمِ وجهات النظر المختلفة عنا، والخيالُ هو الذي يقودنا إلى إدراك الحقائق، والتعاملِ بطرائق إبداعية في مواجهةِ تعقيدات الحياة. يلاحظ مارك توين أن السفرَ يقضي على ضيق الأفق والتعصب، وهذا ينطبق تمامًا على الأدب.

إذا كان الأدبُ يعلمنا، عن خبايا النفسِ البشرية، وعن تعقيدِ العلاقات الإنسانية، وعن أعمق مشاعرنا وأكثرها بديهية، وعن حياة الإنسانِ في أزمنة لم نشهدها، وأمكنةٍ لم نطأها، وعن أخرى عرفناها وشهدناها، أو ظننا ذلك، حتى كشف لنا الأدبُ غير ذلك، إذا كان الأدبُ يعلمنا التاريخَ الذي لا تعلمه مقرراتُ التاريخ الرسمية، تاريخَ أحلام البشر وعذاباتهم ورغابهم، إن كنا نتعلم من سعي جلجامش لعشبةِ الخلود، ومن حب مجنون ليلى لليلى أو رمزِها، ومن مناجاةِ النفري، وبخلاء الجاحظ، ونتلصصُ على خفايا الحياة في الكاريبي بين أعلام البواخر وقيظ الأراجيح مع ماركيز، ونمشي في الشوارعِ المعاصرةِ لپاريس مع كونديرا كما مشيناها في القرن التاسع عشر مع فلوبير، وإذا كنا نتذوق حرقةَ الشطة مع الفول في زقاقِ نجيب محفوظ، وندخلُ دهاليزَ السياسة ودوافعَ الجشع الإنساني والطهر المنشود المتكرر مع حرافيشه، إذا كنا نشربُ المتة مع أستورياس في جمهورياتِ الموز كما نشربها مع الماغوط في سلمية سوريا، إذا كنا نعرفُ معنى الصقيع في روسيا مع دوستويڤسكي وقسوةَ الثورةِ الثقافية في الصين مع مو يان، وحمى الجوعِ في إفريقيا مع نغوجي واثينغو، إذا هربنا بين جبالِ پيرو مع نيرودا، وتجولنا في أحدثِ الأحياء المضاءة بطوكيو مع موراكامي، إذا ما دخلنا القصورَ والمعابدَ على أصابعِ أقدامنا مع كاواباتا، ووراقبنا معه تفتحَ أزهار الكرز، وترشفنا الندى من عشب الصباح ونحن ننسق زهورَ السيدة دالاوي مع ڤرجينيا وولف، وتشممنا الصندلَ المحروقَ المغوي في شقة الشمال للمهاجر الجنوبي في موسم الطيب صالح، وإذا ما أبحرنا مع عاشقةٍ في القارب الصغير بين ضفتي نهر في كيرالا مع أرانداتي روي، أو تأملنا العزلةَ وسؤالَ الهوية في «ميراث الخسارة» لكيران ديساي، وإذا ما هزنا سؤالُ الدين المفروضِ بقوةِ المستعمر في تداعيات آشينو أتشيبي، وارتجفنا لعنفِ الرغاب في لوليتا نابوكوڤ، وواجهنا العمى مع بورخيس، وانفتحت لنا زقاقاتُ مكة مع رجاء عالم، وأرقنا مع سيوران، وارتجفت في أيادينا البندقيةُ مع همنجواي، وقد شرقنا بعظام سمكته، إذا ما بكينا لحلمِ طفلةِ موريسون بعيونٍ أكثر زرقة، وإذا ما لهثنا خلفَ الشخصيات المئة والستين عند تولستوي في حربهِ وسلامه، إذا ما تنهدنا لأن العاشقَ في قصة تشيخوڤ هو نحن، وإذا ما بكينا لأن المفجوعَ في قصيدةِ ابن الرومي هو نحن، وإذا ما ضحكنا لأن عزيز نيسين في أقصى الريفِ التركي يعلمنا السخرية، إذا ما رأينا كيف كان البشرُ يلبسون ويأكلون ويحلمون ويدرسون ويحاربون ويموتون في الأزمنة والأمكنة التي لم نولد بها، إذا كانت هذه هي هباتُ الأدب لنا نحن القراء، فلماذا نشك لحظةً بأن الأدبَ يعلمنا؟

هل لأننا لا نتمكن من أخذ هذه المعرفةِ والخبرةِ الإنسانية إلى المعمل لتحليلها، وصنعِ كبسولات الاستشفاء منها؟ أو لأننا لا نصحبُها إلى المصنعِ لإنتاجِ القمصان أو الأسلحة بواسطتها؟ هل هو تفكيرنا العصري الذي تدرب على قياسِ أهمية العلم بمنفعته الماديةِ المباشرة؟

لماذا لا يكون كل المعارف التي تزدهر في نصٍ أدبي واحد شفيعًا له في حقلِ الفائدة والجدوى؟

لم لا تكون الخبرةُ الإنسانيةُ التي يكسبنا إياها الأدبُ العروةَ الوثقى في تبريره؟ وماذا عن المتعة؟

أو لذة النص، على رأي بارت.

 هناك الفائدةُ الثقافية من القراءة وهناك لذةُ اللعب بالنص ومع النص.

فحين نقرأ الأدبَ لا نبحث عن المعنى وحسبـ بل عن جدة التعبيرِ عنه فنيا، ونحن لا نحب النص للشيء الذي يقوله وحسب، ولكن للطريقةِ التي يقال بها هذا الشيء.

لقد لاحظ الفيلسوف هوسلر أن العالمَ قد اختُزِل إلى مجرد موضوع استكشافٍ تقني ورياضي، وألغَتْ العلوم ، من أفق رؤيتها، عالمَ الحياة الملموس، "وكلما كان الإنسان يتقدمُ في معرفته كان يحجبُ عن نظره العالمَ في كليته، وتحجب عنه نفسه، ضائعًا على هذا النحو فيما كان هيدغر، تلميذ هوسلر يسميه: نسيان الوجود"[2]. ولكن إن كانت العلومُ نسيت وجود الإنسان فإن الروايةَ تذكرته! "لقد اكتشفت الرواية، بطريقتها الخاصة، ومنطقِها الخاص مظاهرَ الوجود المختلفة... الرواية تسبر حياةَ الإنسان الملموسةِ وتحميها من نسيان الوجود"[3].

يقول بروخ: "إن اكتشاف ما لا يتسنى اكتشافُه سوى للروايةِ هو العلة الوحيدة لوجود الرواية، فالرواية التي لا تكتشف جانبا من الوجود بقي مجهولًا إلى الآن هي رواية لا أخلاقية. إن المعرفةَ هي الأخلاق الوحيدة للرواية"[4].

وفي هذا السياق أود أن أقتبس كلام يوسا:

"ومن يبحث في التخييل [الرواية] عما لا يملك، يعبر، من غير ما حاجة لقوله ولا علمه، أن الحياة َكما هي لا تكفي لإطفاءِ غلتنا للمطلق، الذي هو عمادُ الوجودِ لإنساني، وينبغي أن يكونَ أفضل. ونحن نخلقُ التخييل لكي نعيشَ بطريقةٍ ما الحيواتِ المتعددةَ التي نرغب، فيما لا نتوفر بالكاد، سوى على حياةٍ واحدة".[5]



نقلا عن منصة تكوين.


***

[1] جوف، القراءة، 157

[2] كونديرا، فن الرواية، 12

[3] السابق، 13

[4] السابق، 14

[5] خطاب يوسا في استلام نوبل



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق