الأحد، 5 مارس 2023

عن: الملح يلفظ ليله


   انشداد الشعر إلى العذوبة الآسرة

  قراءة في المجموعة الشعرية"الملح يلفظ ليله" 

.للشاعرة الجزائرية أسماء رمرام


سامي المسلماني / تونس




لم أؤمن يوما بالتصنيف الجنسي للأدب، فمن المغالاة تقسيم الأدب إلى أدب ذكوريّ وأدب نسويّ،لأن الأدب إنساني بامتياز، ولذلك يرفض أغلب النقاد مصطلح"الأدب النسويّ" منذ نشأته الأولى في مهده الغربي، لكنّ هذا لا ينفي أن بعض النصوص النسوية تتمتع بخصوصية واضحة، ويبدو ذلك جليا في مجال الكتابة الشعرية خاصة. فلا أحد ينكر  أن الشعر النسويّ يزخر بطاقات إبداعية مميَّزة، إذ أكاد أجزم أحيانا بأن الشعر أنثى وبأنّ الأنثى شعر ينساب مفعما بالعطور المتنوعة والأخّاذة، فيبعث في القارئ لذة مخصوصة،وربما هي تلك اللذة التي تحدث عنها "رولان بارط"، ويكون ذلك كذلك عندما نربطها بالتعامل مع تلك النصوص ومحاورتها فكم هو ممتع أن تحاور روح امرأة شاعرة وذاتا أنثوية مجنحة،وكم هو ممتع أن يكون النص الشعريّ جسدا حيّا ينبض بالحياة ويضجّ بالغواية والعشق والشوق...! وفي هذا الإطار يمكن تنزيل مجموعة"الملح يلفظ ملحه" للشاعرة الجزائرية أسماء رمرام. 


"الملح يلفظ ليله" مجموعة شعرية صدرت سنة 2021, عن دار خيال للنشر والترجمة. تبدأ فتنة هذه المجموعة منذ العتبة الأولى، وهي العنوان،الملح يرتدي اثوابا رمزية عديدة فهو وإن كان يتصل بالمرارة والعطش فهو يرتبط أيضا بمعنى الجوهر والأصل، فتقول ملح الارض ونقول ملح الوجود ونقول ملح الحياة، الملح في وجه من وجوهه هو الحياة،بل هو جوهر الحياة. وهل من حياة دون جسد؟!. 

                                          


إنه الجسد الذي يتخلّص من ظلامه، يلفظه، يطرده، كي يضيء ويشرق،وقد لا يكون ذلك إلا عبر الشعر وبالقصيدة تنبع من أعماق الروح الجسد أو قل الجسد الروح فتفك إزار الليل ويتنفس الصبح في دهاليز الذات المأزومة. إنه استدعاء للشعر البلسم لتضميد الجراح و استحضار للبوح الشافي  يخفف من وطأة الانكسار والألم.... هكذا شعرت بالعنوان وشعر بي وهكذا ذهبت به وذهب بي وأنا أقرأ النص الأول الذي يحمل عنوان المجموعة. الشاعرة تعود بالشعر إلى ذاتها  أو هي تحاول إضاءة هذه الذات المظلمة التي أتعبتها المسافات وخذلتها الاتجاهات وتملكتها الحيرة فغدت أمطار الغيمة أسئلة. تقول:

أعود إليّ

وما عدت أعرف أيّ الجهات

تقود إليّ

ولا عدت في الحب أحمل بوصلة

أو أشاور حدسي

وما عاد في أرضى المستغيثة بالماء

نهر

ولا في سمائي الغريبة قطر

ولا في تخوم المجاز دليل

يسلي اليباس الذي في عروقي

ويرجعني

غيمة للسؤال....

وتتواصل الفتنة عبر الايقاع الذي يسري في أغلب نصوص المجموعة شفافا منغما ،ولكن ذلك لا يعني أن الشاعرة احتذت الايقاع التقليدي عبر أوزانه وبحوره احتذاء،وإنما هي نوعت في إيقاع نصوصها،فالتوزيع البصري والسمعي لنصوصها يحيل على شعر التفعيلة ولكنها لم تلتزمه في كامل نصوصها وإنما هي عمدت في أحايين كثيرة إلى كسر الايقاع وتحطيمه وقد بدأ ذلك متلائما إلى حد ما مع مايسود اغلب نصوصها من انكسار نفسي وجداني، ومايدل على ذلك ظاهرة التدوير التي شملت تفعيلات:فعولن و متفاعلن ومفاعلتن، وبذلك غدت نصوصها أحيانا مراوحة ممتعة بين الوزن واللاوزن، وقد ساهمت هذه المراوحة في الربط بين الأسطر الشعرية فزادت في إحكام النسيج التركيبي الداخلي... بيد أن كل ذلك لا يخفي احتفاء الشاعرة بالموسيقى  التي بدت في بعض نصوصها جلية واضحة،حتى أن القارئ المنصت يستلذّ ذاك النغم الشجيّ وكأنه يستمع إلى "سوناتا" ممتعة. صحيح أن الشاعرة لم تلتزم التزاما كليا بشروط السوناتا كما كتبها الشعراء الغربيون والعرب، فهي لم تعتمد ذاك التناسق الصوتي بين أربعة عشر بيتا بصورة حرفية ولم تلتزم بالنظام المقطعي الثلاثي أو ما يسمى ب"الحركات الثلاث" وهي عبارة عن انتقالات نغمية متنوعة ترد في قالب موسيقي مغلق. ولكنها احتذت ماتقوم عليه السوناتا من تقطيع للمادة النغمية ومن تنويع للقوافي ومن اعتماد لتزاوج العناصر الإيقاعية وخاصة منها الجناس الذي أضفى على نصوصها إيقاع داخليا تظافر مع الايقاع الخارجي لتشكيل قطعة موسيقية جميلة.

                                        

                                       

تقول في نص"أشواق الريق" :

قولوا لمن

أحيا البكاء بخاطري

من أيّ نهر ترتوي شفتاك؟

من أيّ ثغر ترشف الريق الذي

لا يكتفى من شوقه

لعراك؟

هذي القصائد حلوة محمومة

في صوته

إذ يستلذّ غناك

نار إذا ما أقبلت في حرّها

شرقية

تأتي على دنياك

ريح إذا ما حرقة عصفت بنا

غربية

بردت بها يمناك....

ص(37-38)

وربما أبرز مايربط بعض نصوص أسماء رمرام بالسوناتا هو تلك الغنائية التي تخاطب الوعي الذاتيّ أو - بلغة أخرى-الصراع الذاتيّ إذ لها إيقاع مخصوص تتولّد منه نظرة أو رؤية ذاتية ووعي ذاتي يعبّر عن ذات إنسانية تعيش صراعا وجدانيا أو تجربة نفسية مريرة...

ولعلّ هذه الذاتية البارزة ما يجعل نصوصها - بحق-صادقة إلى حد النخاع،بل إن نصوصها تقيم مع القارئ علاقة حب وغرام، فإذا القارئ عاشق وإذا بقصائدها حسناوات تتغنّج.

 

يقول رولان بارط:"إنّ كل نص يُقرأ بلذة يعني أنه كُتب بلذة" وهذا فعلا ما نلمسه في شعر أسماء، فهي تستحضر اللغة في بهائها الأول فتحتفي بها وتحيي الهرم منها فيعود نضرا شابا، فنستقبل كلمات من قبيل"المعصرات، العرى، القطر، السنى...." فتأنس بالكلمات المعهودة في نسيج لغوي متين.فنجد أنفسنا إزاء صور بديعة مبتكرة في آن. الشاعرة لم تعتمد في صورها على علم البيان التقليدي فنحن نكاد لا نصادف تشبيها وإنما نصادف في كل حين تصويرا يعتمد بالاساس على التشكيل اللغوي القائم على الانزياح ،فيبدو أن الشاعرة لم تعد تؤمن بأنّ البلاغة القديمة القائمة على الإحالة والعدول المحدود المصدر الأساسيّ للصورة الشعرية، ولم يعد يعنيها أن تنصهر صورها في بوتقة الواقع و أن تتناسب معه مثلما تنصّ عليه البلاغة القديمة، وإنما هي تنشئ صورها كي تتناسب مع واقعها الذاتي الصرف، فصورها لا تعدل إلا إلى عالمها الداخليّ،فتشي بكون باطني خبيء، وبنفس مجهولة المعالم، وبذات ترقص في الضباب... فالصورة إذن في شعر أسماء رمرام شديدة الارتباط باللغة ونسيجها في تحررها وانطلاقها،وقد اعتمدت في ذلك بالأساس على الاستعارة،ولا يخفى هنا ما للاستعارة من رحابة فنية تسمح بتناول اللغة تناولات متنوعة ولا حصر لها، ومن بين هذه التشكيلات اللغوية الاستعارية قولها"غيمة للسؤال،مشي أنيق يمد سناه، أنا امرأة فلتكن للأنوثة طلا وماء، احتياجات أنثى تغرّب كي تحبس الشمس في غرفة حين تبكي تشرّق، عفا الله عن صمتنا إذ يذوب...."

                                           

وما يلفت الانتباه أن جل صور الشاعرة تدور حول تيمات أنثوية شديدة الخصوصية، فهي- بحق- تصور ذات الأنثى في تقلباتها الشعورية والوجدانية اللامتناهية،لذلك كانت صورها شديدة الثراء والتكثيف، وأضافت إلى كل ذلك البعد الترميزيّ،وهو بعد يتّصل أساسا بلغة الجسد أو "الايروتيكا" فاللانثى جسد يحتاج إلى الحب مثلما تحتاج الارض إلى الماء،والأنثى كيان روحي مادي تتوق إلى الكحل وقمصان النوم ورجفة النهد.... والأنثى "من غير شعر مساحيق بلا معنى عميق"، والأنثى حب يتمازج فيه كيميائيا الجسد بالروح. تقول الشاعرة:

....وأن الكحل لولا الروح لولا

تماهي لونها الحر الطليق

لما كانت لرونقه حياة

ولا لبهائه النبض الحقيقي.

ص(34)

والأنثى رجل يتماهى معها جسدا وروحا

"يشم على مهل عطرها

ويوقظ في الليل أغنية

من حرير ونار

يغازل أثواب قطن تدلّت

على ركبتيها

ويمهلها ليله كله

كي ترمم ماقد تمزق في جوفها

من نسيج الأنا..."

ص(36)

                                

في مجموعة"الملح يلفظ ليله" افتتان بلغة الشعر القديم ولكنّ ذلك لا يخفي تطعيم القديم بالجديد ممّا أضفى جدّة وطرافة

ساهمتا في سبر أعماق الشاعرة بصورة صادقة وشفافة، وقد توسّلت لذلك الشاعرة إيقاعا مخصوصا لانه ذاتي غنائي فاقتربت من فن السوناتا ونهلت منه، واعتمدت على صورة مجنّحة عميقة وترميزية استحضرت من خلالها شيئا من إدانة للرجل العربي الذي لم يقترب بعد من تخوم الذات الانثوية بأبعادها النفسية الثرية ،ولم يتقن بعد لغة الجسد، ولم يفهم بعد تيمات الروح الحسناء.... القصيدة في "الملح يلفظ ليله" ترتدي فستانا وتتغنج رغم أنها تخفي دموع الماضي ومرارة الذكريات وجناتها، إنها جسد حيّ يتمرغ في الحرير ويقفز بين السكاكين، تغني وتبكي وتدعو الآخر إلى الحب والخير والسلام... وربما لكل ذلك تجنح نصوص أسماء رمرام في فضاءات الإنسانية رغم ايغالها في الذاتية.و بجمعها بين الذاتي و الجماعيّ تمكنت من بذر عذوبة آسرة في كل قصائدها.

                                               


السبت، 8 أكتوبر 2022

عن: الملح يلفظ ليله

 يزهر الملح في مزارع الغموض والقلق والمجاز ، يمد مساحات شاسعة المذاق شديدة الطعوم تفوق حاسة اللمس والشم وباقي الحواس إلى ما لانهاية مذاقات اللذع والحدية عند اختبار التذوق ومتعة التجريب ، نعرف أن للملح أهمية حضور تاريخي عبر العصور القديمة حيث كانت قيمته تعادل الذهب في بعض الحضارات، وهو كمادة مهمة تضاف للطعام لإبراز النكهة وتعزيزها ، توازن بين مختلف المواد المستعملة عند إعداد الوجبات وبها يتم تحصيل لذة الأكل بحضوره الضروري في أغلب الأطباق حتى الحلوة منها مثلما يفعله بعض طهاة الحلويات.

عندما يُكتب الشعر بطعم  مملح ومعتدل تبرز للأبحر تفعيلاتها وأوزانها على سواحل الخيال أين لا حدود للسباحة والمغامرة ضفة من بعد ضفة ، تتهادى الكلمات على سطح المياه فتبدو مثل سمكات رائقات تلتمع عيونها في خطفة الضوء ، تنير عمق الليل وتصدح بالغناء وبالقصائد.

يكتب الشاعر نصه ثم يتركه ليكمل اختماره كعجينة الصباح لا تطلع عليه الشمس إلا بشروق كامل ، ثم إن الشعر مرآة كاتبه وكاشفة مباغتاته الفعلية مع الورقة في رحلة النزف حتى آخر حبة ملح تتبخر مع عرق المداد.

" الملح يلفظ ليله " عنوان مكتظ مشحون برغبة البوح بأن يفرغ حمولة البحر والبحيرات على كفوف نصوص تتراوح بين الأنا والآخر ، بين الحب والوطن الرغبة والعشق وما يلازم الروح العاشقة من قلق المسير غير ثابتة الخطوات في متاه الحياة ، بين أقصى درجات التمام ثم النزول بها أقصى مدن الشتات ، روح المبدع هي هكذا تمشي على أرض الزلازل المتحركة ، هل كانت يوما بدون مخاض وبدون أن تلفظ بواطنها ما تخبئه جيوب الكلمات ؟

بهذا تباغتنا الشاعرة أسماء رمرام في ديوانها الملح يلفظ ليله ، عنوان إيحائي مركب ، يتركنا نتساءل ما علاقة الملح بالليل وكيف يتقيأ الملح ليله على كتاب يمتد على شاطىء حبري بطول 72 صفحة؟

تفتتح الشاعرة ديوانها بمقطوعة شعرية للشاعرة السودانية روضة الحاج ،

يزيد يقيني في كل يوم 

بأني كعود الثقاب الذي لن يضيء

سوى مرة واحدة

فكن هذه المرة الواحدة.

هنا تعاضد المرأة امرأة من ذات همها وتكوينها الحساس كأن المرأة كائن لا ينفصل عن صفاته وإن تعددت أشكاله ، يبقى هذا الكائن السهل الممتنع يحمل نفس الهواجس وان اختلفت توجهاته في الحياة وتباينت بيئاته وتنوعت تضاريسه البيولوجية.

الإهداء جاء في كلمة واحدة مختصرة 

"إليه."

من هو ؟ وحدها الشاعرة أسماء رمرام تعرفه وكقراء يحق لنا التأويل قد يكون الشريك ، أو إنه الشعر أو أي شيء آخر مذكر تعنيه ويهمها أن يكون له حضور مختزل وأثيري مثل هذا ، ( إليه )

يبدأ الديوان بالنص الذي يحمل عنوان الكتاب 

الملح يلفظ ليله.

تقول الشاعرة 

يا أيُّها الملح 

كم عمرنا في المسافة 

كم ليلة جمعتنا معا

وكم كأس شاي شربنا

كم قبلة لملمت بردنا 

وكيف استطاعت عراه الحبيبة

أن تلفظ الليل والذكريات؟

تساؤلات تطرحها الذات الشاعرة تاركة إياها دون إجابات وهي تستغني عنها فقد ناب الملح عن طرحها ولملمت القبلة بردها دون معرفة عمر المسافة الفاصلة بينها وبين هذا الليل الذي يجمعهما معا وهذه الذكريات.

في نص آخر تحت عنوان الحب ، تذهب الشاعرة إلى الريح الخافقة الشفافة تقيس بها وزن الحب وهشاشته ، تدعو الحبيب وتحثه إلى الذهاب مباشرة إلى حبيبه مثل الريح تماما عندما تذهب للأشجار فتلقح الأغصان ، تطالبه بالكلام وأن لا يجنح للصمت ، الحب يحتاج ركوب الموج وإلى روح مغامرة وأيضا إلى الفعل الصريح والاقتراف الجميل.

/

إذا كان وزنك في الريح يخفق 

حبا 

فلا تتملّ السكاتْ

وقل للحبيب إذا ما رأيته 

أهلا 

ولا تكتم الخفقات.

نص آخر تستحضر فيه الشاعر العربي الغني عن كل تعريف محمود درويش كان تحت عنوان درويش دفء الشتاء ، 

الحنين يغمر الشتاء والشعر بعودته إلى أحد أعمدته الراسخة في ذاكرة القارئ ، فصل الذاكرة بامتياز تستيقظ معه الألحان في قلب عاشقة تتوحد بفعل القراءة مع شاعرها وتستقطب روحه الماثلة في كينونة القصائد، فهي المتمرسة الجامحة في لعبة القول و الحياة.

/

كانون يا سادتي بغير القراءة 

قاس كما تعرفون 

رعد وبرق وريح وغيم 

جوارب تحت النعال

ومدفأة للصلاة الأخيرة 

في أول الليل

وكوب من الشاي 

يعرف أسراره العاشقون.

هي العاشقة تلملم أطياف الجمال وتعانق روحا سافرت ذات غيمة غياب ، لكنها ما تزال تشرق مثل شمس أبدية في قلوب مريديها وعشاق مسلكها الشعري. 

شقوق السؤال نص آخر ضمن مجموعة نصوص وعناوين تسافر بالمتلقي في أراضي الشعر الخصبة ، شعر التفعيلة وأوزان الخليل وهو ينساب نهرا صافيا رقراقا من روح شاعرة لها بصمتها الشعرية وتجربتها المتنوعة بين كتابة النثر وشعر التفعيلة وكذا القصة القصيرة، 

تقول 

المكان يراوغ أحذيتي 

أعود إلى زمني في القصيدة 

ألبس نعل الخيال الذي 

في شقوق السؤال.

احتكاك الأحذية بالأمكنة التي تزورها قصدا تطؤها الأقدام لكنها مسار للمشاعر ومسرح للغة و الحنين يحدث دائما حميمية تعود بالشاعرة إلى زمن قصيدتها المتآلفة معها ، زمن الكتابة والاستناد إلى الخيال الذي يقود قاطرة الكلمات نحو معناها ،  

تواصل بلهجة السؤال 

لماذا تحن 

وأنت الذي في المدى جئت لي بالسراب ؟

لماذا تركت الحديقة عطشى؟

هكذا تتهاوى مطارق الأسئلة محدثة شقوقها 

إلى أن تقول له

أنا امرأة 

لي ككل النساء عبير

وبوصلة 

واحتياجات أنثى.

إنها المواجهة عند حافة الحاجة تقف لتعبر عن رغبة كل أنثى في الحب والاحتواء.

تكتب أسماء رمرام  الشعر متمكنة من أدواته بلغة شاعرية شفيفة ، تنساب إلى متلقيها انسياب الماء في عروق مجاريه ، هادئا ومتناغما مع عذوبة بحوره ، شاقة دربها مثل وردة بين وردات الشعر الجزائري والعربي ، تاركة عبيرها لأجيال ستأتي وتقرأ وتحكم على صدق وأصالة التجربة النابعة من حب اللغة وخوض غمارها عبر مسالكها المتنوعة والمتقاطعة مع تجارب كثيرة.



الملح يلفظ ليله ديوان شعر للشاعرة أسماء رمرام صادر عن دار النشر خيال وقد قدمت له الأديبة نائلة الشقراوي بمقدمة بديعة لملمت فيها خيوط تجربة الشاعرة في ديوانها هذا.


رزيقة بوسواليم /

شاعرة جزائرية.

الأربعاء، 17 أغسطس 2022

عن: الملح يلفظ ليله



طبائع الشعر وتشكله في ديوان الملح يلفظ ليله.


 إن الشعر هو الصوت العاري وبصمة الوعي الحادّة على الأشياء. هكذا يُعرّف المفكّر والشاعر الفرنسي ميشيل دوغي الشعر. ولا تحيد الشاعرة الجزائرية أسماء رمرام عن هذا المعنى في ديوانها الشعري الصادر مؤخرا عن دار خيال للنشر بالجزائر (2022).كما تعدّ من أبرز الأقلام الصاعدة في الفترة الأخيرة، فقد كرّست نفسها لشغف الكتابة بين الشعر والقصّ، والإنتاج والنشر.

لعلّ السؤال الذي يتبادر للذهن منذ أول وهلة، هل لهذا التشعّب في الإبداع الأدبي بين الشعر والسرد تاثيرات على نِتاج أسماء رمرام. أم انها تعتبر الشعر الرافد الأول والأصيل، حيث يصبح بمعزل عن الأنواع الأدبية الأخرى، وهو ما يكشف بدوره عن طبائع تشكلّه من خلال ديوانها "الملح يلفظ ليله". ويبدو أن هذه المقاربة لن تنحاز  الى الشعر في صيغته الجمالية فقط، فهو منفتح، ومتعدد، ومختلف، ومن ثمّ يغدو العنوان المرٱة العاكسة لمجموعة السياقات المحيطة بالعمل ككلّ. حيث العتبة الأولى للديوان، بما يدّخره من تمثّلات لغوية وملامح فنيّة، تؤتي سرّ تلك القوّة الجاذبة لإنشاء خصوصيّة القصائد على مستوى الإبداع شكلا ومضمونا، ممّا يشير الى تلك المسافة بين الفكرة واللغة  في فحوى الإشارة المركزية، ودلائل سيرورتها الطافحة في أفق القصائد. 

فمادّة الملح كثيفة في رمزيّتها، وتُعتبر الشكل الأشد نقاءً. ومن خلال بعض الدراسات في علم النفس، يُقرّ المحلل النفسي البريطاني إيرنست جونز، بالهوس الإنساني بالملح، ويورد أن البشر منحوا الملح قيمة كبرى تفوق مزاياه الطبيعية، لتخترق هذه المادّة النسيج الثقافي. 

ومن الواضح ان الشاعرة استدعت هذا الرمز وبثّت فيه من رؤاها وأفكارها، وطوّعته لغويّا كأداة تلغيم للمشاعر وتمثّلِ التلاقي بين الأبعاد التخيّلية والجمالية.     


والمتأمّل في أغلب النصوص، يدرك ان الإحساس هو النسيج التي تغزل به مُجمل قصائدها، لتطلّ علينا اللغة حيّة ومتقدة كالشرارة. فهو بمثابة الطاقة الخلاّقة التي يضخّها الشعر لتبتكر معجمها اللغوي المتفرد. ولضبط سياق هذا العمل الإبداعي وتصنيفه، تجدر الإشارة الى أنه ديوان تفعيلة ويضمّ بعض القصائد العمودية، كما يعتمد على توجّه فنيّ خاصّ في الأداء الشعري من حيث المبنى والإيقاع. ويندرج ضمن الشعر الحداثي على مستوى الصور، ممّا يدعم السمات الأساسية للغرض الشعريّ وثيمة الإخلاص للكلمة ضمن دائرة لامتناهية وفق خطاب متحرر من كل تبعية لأنظمة اللغة. انه ينبع من حرارة العاطفة ويصطبغ بألوانها لتتبلور حياة برمّتها.

وبناء على هذا السياق، يقول الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع " كل شعر حقيقيّ هو دفاع عن الحياة ". لقد اتخذت الشاعرة هذا الملمح كمادّة للشعر، ليختزل وعيها وحِسّها وإدراكها، فتنقله الى صعيد مذهل غير مألوف. مما يجعل القصيدة ممتلئة بشحنة شاعرية عالية، إضافة الى البنية اللغوية المتحرّكة، والتتابع الإيقاعي المتحرّر من المعنى، كما لو أنها تدين الشوائب والصمت والجمود، لتندلع الحياة.

 

يا أيها الملحُ 

كم عمرنا في المسافة ؟

كم ليلةً

جمعتنا معا ؟

وكم كأس شاي شربنا ؟

كم قبلة لملمت بردنا ؟

وكيف استطاعت عُراه الحبيبة 

أن تلفظ الليل والذكريات ؟


ان أيّ صوغ جماليّ لا يُعبّر بالضرورة عن صوت الذات الشاعرة فحسب، وانما يحيلنا الى صوت الآخر، وصدى الأشياء وضجيج العالم والهمس الكونيّ. فجاءت القصائد مٌحرّكة للسّكون وموقظة للحواسّ. وقد اتخذت من التقنيات الشعرية ( المجاز، التشبيه، الإستعارة ) بوصلة لتوجيه نظرتها الى الأمور بكل تناقضاتها. لتشعّ القصائد بباقة من الصور المتزامنة مع الشحنة الإنفعالية والمتخفّفة من القافية في تمظهرها الإيقاعي، فيحقق ذلك امتدادا وتعميقا للمعنى. 


حين تخرج منّي 

خفيفا

تقبّح ما جمّل الحبّ في ليلنا 

واصطفاه ؟

أبعدك أزهد أم أنني 

في الحنين الى جسدي

أشتهي ما تراه ؟


والجدير بالذكر أن نصوص أسماء رمرام حافلة بالخيال. فهو منفلت من المنبهات الحسيّة والمؤثرات الخارجية، ويُعدّ طاغٍ في مجمل القصائد، وقد سهّل جنوحها الى المزج بين العناصر المتنافرة، ليكفل لها بناء عالمين متعارضين، بين البواعث والأغراص، فتتخلّص من كل نظام موضوعي وتأسره في دائرة الباطن ولواعجه. حيث سعت الى استجماع شتات الذاكرة، بشفافية مملوءة بالحياة، ونزع تلك القشرة المسبوكة والمعتادة. لكنها تراهن على الرومانسية التي تسهم في هتافاتها الشعرية، للظفر بحالة تذوقيّة تتماهى مع الإحساس اللامحتمل، وطبائع إنعكاسه في العبارات المتحولة الى عوالم شتى دون التوازي بين الواقع واللغة. 


لنا في الطريق التي 

ململتنا 

تفاصيل عمر 

يُلوح لخَطوي

يلوّح لي من بعيد 

يئنّ

ولا يدّعي أنه لا يراك


ثمّة شيء آخر تؤسّس عليه خطابها الشعري، هو العمق لفائدة حالة شعورية محايدة ورغبات متباينة، ممهدة السبيل الى إصغاء القارئ، في غمرة تلك الهزة أو اللذة الجمالية، للخروج من قيد اللغة، ومشرّعة الى علاقة مع البصيرة وإحالتنا الى الآخر أو "الحبيب" الى حدّ تصوره في أذهاننا لتتردّد أصداء العشق في قمم المعاني.


تنام 

فتترك باب الجنون

وحيدا وراك

وان نمت أنت 

فمن لي 

يُجمّل وقت السهاد

سواك ؟؟

وان كان ليلك نام بدوني 

وان يقترفك الكرى

فالجوى يتلظى ارتباكا


وخلاصة القول أن لغة رمرام، عميقة بتوغلها في المجاز، ومشدوهة بالمشاعر، متخذة الطابع الرومانسي ملاذا لاستثارة الصور المتمثلة بذاتها الشعرية والمستقاة من قريحة خصبة، وايقاع خيالي رافده القويّ هو العاطفة، لتكشف عن عوالمها ورؤيتها للوجود الحسيّ دون شحّ أو بهرجة.


هدى الهرمي

كاتبة تونسية

الأربعاء، 29 يونيو 2022

لماذا نقرأ الأدب؟ /جوخة الحارثي

 

لماذا نقرأ الأدب؟ _ جوخة الحارثي

 

لا يمكن فصلُ الأدب عن الفكر، كما لا يمكن فصلُه عن السيكولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفةِ والتاريخِ وعلوم أخرى.

في لقاءٍ حضرته مع مجموعةِ من القارئات لمناقشة «سيدات القمر» في نسختها الإنجليزية، بادرتني إحداهن -وهي من جنوب إفريقيا- بهذا السؤال: "كيف أمكنكِ أن تكتبي عن شخصيةِ زوجي بهذه الدقة وأنتِ لم تلتقيه قط؟"، قلتُ لها: دعيني أخمن، هل شخصية زوجك تشبهُ شخصيةَ خالد في الرواية؟ فشهقت مرة أخرى، وقالت: كيف عرفتِ أني أقصد خالدا؟

وفي مناسباتٍ أخرى قالت لي أكثرُ من طالبة مغتربة إنها وجدت نفسَها في شخصية زهور في رواية «نارنجة».

لعل مثلَ هذه المواقف يعدُّ مكافأة للكاتبِ على كتابته. الكتابةُ شاقةٌ ولكن لها هباتِها، وهذه بعضُ الهبات. ولكني لا أرغبُ هنا بالتحدث عن الكاتب ومسرات الكتابة وأوجاعِها، بل عن القارئ، لماذا يعدُّ الأدب ضرورة؟ وكيف يجد القارئ أصداءً لحياته تتردد بشكل أو بآخر في كتاب أدبي ما، أو في روايةٍ بعينها؟


كان الأدبُ في عصر النهضة بأورپا مرتبطا بالبرجوازية وبالصالونات الاجتماعية والثقافية الراقية، ولم يكن الحالُ مختلفًا في الدول العربية مع انتشار الأمية بين عامة الناس، إذ كان الأدبُ نخبويًّا إن صح التعبير. وفي عمان حيث بيعت الكتبُ النفيسةُ بأغلى الأثمان كانت مباهجُ القراءة الأدبية مقصورةً في الأغلب على طبقاتٍ بعينها من الفقهاء والقضاة والأثرياء، ومن الساسة الذين أبدوا اهتمامًا ثقافيًّا سمح لهم بتكوين المكتبات واحتواء الشعراء.

بيد أن الأدبَ لم يعد نخبويًّا اليوم، لا في العالم عمومًا ولا في العالم العربي وعمان خصوصًا. ربما يكون لظهورِ الصحف والمجلات دورٌ في تغيير الأدوار وتعديلها، وكذلك اتساعُ آفاق النشر المحترف للكُتب وتسويقِها، غير أن الدورَ الحاسم َكان لانتشار التعليم وتحويلِ الأدبِ إلى مقررات مدرسية، إذ أنزل الأدبُ من نخبويته إلى طاولات الدرس وكراسات التلاميذ الذين تساءلوا : لماذا ندرس الأدب؟

إذا أصبحت القصائد ُوالقصص والرواياتُ وأجناسٌ أدبية عدة في متناول أيدينا، فما قيمتُها في حياتنا؟

لماذا نقرأ المتنبي أو شيكسپير أو طاغور أو نجيب محفوظ؟

في السنين العشرين الأخيرة التي قضيتها دارسةً ومدرِّسةً للأدب، واجهني طلابي دائمًا بهذا السؤال: ماذا نستفيدُ من قصيدة أو رواية؟

هل يُعلمنا الأدب؟

نعم، بكل تأكيد، الأدب يُعلمنا.

إن فكرةَ قياس "الإفادة" من العلوم الإنسانيةِ بنوع "الإفادة" من العلومِ البحتة، فكرةٌ غير مجدية. نحن نتحدث عن حقلين مختلفين من حقولِ المعرفة، فالتطبيقُ المباشر لمسألةٍ فيزيائية أو معلومةٍ طبية مختلفٌ كليًّا عن طريقة الأدب في تعليمنا: الطريقة التي تتجنبُ المباشرةَ في المقام الأول.

ربما نقول ببساطةٍ إن الأدبَ يساعدنا في فهم العالم، ولكنه في الحقيقة أكثرُ من ذلك. إنه الميدانُ الحقيقيُ الذي تتقاطع فيه معارفُ شتى. عندما أراد فرويد أن يطلق أسماءً على اكتشافاته النفسية التي عُدت حديثةً وقتها، مثل عقدة تعلق الابن بالأم وإقصاء الأب، لم يجد خيرًا من الأدب ليستقي منه، وهكذا ما أطلق عليه فرويد مثلًا عقدةَ أوديپ هو ما بسطه كاتبُ الأسطورة اليوناني سوفوكليس عن قصة الملك الذي تزوج أمه وقتل أباه، تحقيقًا لنبوءة، هذه العقدة النفسيةُ التي تُعد اكتشافًا حديثًا في حقلِ علم النفس، طرحها الأدبُ منذ أقدم العصور، وعمد فرويد لاختيار اسمها على اسم أوديپ بطل الملحمة الخالدة. لقد عرف الأدبُ هذه العقدَ النفسيةَ كما عرف تيارَ اللا وعي قبل فرويد، وبسطَ لنا الصراعَ الطبقي قبل ماركس.

لا يمكن فصلُ الأدب عن الفكر، كما لا يمكن فصلُه عن السيكولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفةِ والتاريخِ وعلوم أخرى. 

غير أن "الحمولة الثقافيةَ للنص تصل الى القارئ وفق خصوصية رغبته"[1].

إن الأدبَ يدربُ عقولَنا على المرونة، وعلى تفهمِ وجهات النظر المختلفة عنا، والخيالُ هو الذي يقودنا إلى إدراك الحقائق، والتعاملِ بطرائق إبداعية في مواجهةِ تعقيدات الحياة. يلاحظ مارك توين أن السفرَ يقضي على ضيق الأفق والتعصب، وهذا ينطبق تمامًا على الأدب.

إذا كان الأدبُ يعلمنا، عن خبايا النفسِ البشرية، وعن تعقيدِ العلاقات الإنسانية، وعن أعمق مشاعرنا وأكثرها بديهية، وعن حياة الإنسانِ في أزمنة لم نشهدها، وأمكنةٍ لم نطأها، وعن أخرى عرفناها وشهدناها، أو ظننا ذلك، حتى كشف لنا الأدبُ غير ذلك، إذا كان الأدبُ يعلمنا التاريخَ الذي لا تعلمه مقرراتُ التاريخ الرسمية، تاريخَ أحلام البشر وعذاباتهم ورغابهم، إن كنا نتعلم من سعي جلجامش لعشبةِ الخلود، ومن حب مجنون ليلى لليلى أو رمزِها، ومن مناجاةِ النفري، وبخلاء الجاحظ، ونتلصصُ على خفايا الحياة في الكاريبي بين أعلام البواخر وقيظ الأراجيح مع ماركيز، ونمشي في الشوارعِ المعاصرةِ لپاريس مع كونديرا كما مشيناها في القرن التاسع عشر مع فلوبير، وإذا كنا نتذوق حرقةَ الشطة مع الفول في زقاقِ نجيب محفوظ، وندخلُ دهاليزَ السياسة ودوافعَ الجشع الإنساني والطهر المنشود المتكرر مع حرافيشه، إذا كنا نشربُ المتة مع أستورياس في جمهورياتِ الموز كما نشربها مع الماغوط في سلمية سوريا، إذا كنا نعرفُ معنى الصقيع في روسيا مع دوستويڤسكي وقسوةَ الثورةِ الثقافية في الصين مع مو يان، وحمى الجوعِ في إفريقيا مع نغوجي واثينغو، إذا هربنا بين جبالِ پيرو مع نيرودا، وتجولنا في أحدثِ الأحياء المضاءة بطوكيو مع موراكامي، إذا ما دخلنا القصورَ والمعابدَ على أصابعِ أقدامنا مع كاواباتا، ووراقبنا معه تفتحَ أزهار الكرز، وترشفنا الندى من عشب الصباح ونحن ننسق زهورَ السيدة دالاوي مع ڤرجينيا وولف، وتشممنا الصندلَ المحروقَ المغوي في شقة الشمال للمهاجر الجنوبي في موسم الطيب صالح، وإذا ما أبحرنا مع عاشقةٍ في القارب الصغير بين ضفتي نهر في كيرالا مع أرانداتي روي، أو تأملنا العزلةَ وسؤالَ الهوية في «ميراث الخسارة» لكيران ديساي، وإذا ما هزنا سؤالُ الدين المفروضِ بقوةِ المستعمر في تداعيات آشينو أتشيبي، وارتجفنا لعنفِ الرغاب في لوليتا نابوكوڤ، وواجهنا العمى مع بورخيس، وانفتحت لنا زقاقاتُ مكة مع رجاء عالم، وأرقنا مع سيوران، وارتجفت في أيادينا البندقيةُ مع همنجواي، وقد شرقنا بعظام سمكته، إذا ما بكينا لحلمِ طفلةِ موريسون بعيونٍ أكثر زرقة، وإذا ما لهثنا خلفَ الشخصيات المئة والستين عند تولستوي في حربهِ وسلامه، إذا ما تنهدنا لأن العاشقَ في قصة تشيخوڤ هو نحن، وإذا ما بكينا لأن المفجوعَ في قصيدةِ ابن الرومي هو نحن، وإذا ما ضحكنا لأن عزيز نيسين في أقصى الريفِ التركي يعلمنا السخرية، إذا ما رأينا كيف كان البشرُ يلبسون ويأكلون ويحلمون ويدرسون ويحاربون ويموتون في الأزمنة والأمكنة التي لم نولد بها، إذا كانت هذه هي هباتُ الأدب لنا نحن القراء، فلماذا نشك لحظةً بأن الأدبَ يعلمنا؟

هل لأننا لا نتمكن من أخذ هذه المعرفةِ والخبرةِ الإنسانية إلى المعمل لتحليلها، وصنعِ كبسولات الاستشفاء منها؟ أو لأننا لا نصحبُها إلى المصنعِ لإنتاجِ القمصان أو الأسلحة بواسطتها؟ هل هو تفكيرنا العصري الذي تدرب على قياسِ أهمية العلم بمنفعته الماديةِ المباشرة؟

لماذا لا يكون كل المعارف التي تزدهر في نصٍ أدبي واحد شفيعًا له في حقلِ الفائدة والجدوى؟

لم لا تكون الخبرةُ الإنسانيةُ التي يكسبنا إياها الأدبُ العروةَ الوثقى في تبريره؟ وماذا عن المتعة؟

أو لذة النص، على رأي بارت.

 هناك الفائدةُ الثقافية من القراءة وهناك لذةُ اللعب بالنص ومع النص.

فحين نقرأ الأدبَ لا نبحث عن المعنى وحسبـ بل عن جدة التعبيرِ عنه فنيا، ونحن لا نحب النص للشيء الذي يقوله وحسب، ولكن للطريقةِ التي يقال بها هذا الشيء.

لقد لاحظ الفيلسوف هوسلر أن العالمَ قد اختُزِل إلى مجرد موضوع استكشافٍ تقني ورياضي، وألغَتْ العلوم ، من أفق رؤيتها، عالمَ الحياة الملموس، "وكلما كان الإنسان يتقدمُ في معرفته كان يحجبُ عن نظره العالمَ في كليته، وتحجب عنه نفسه، ضائعًا على هذا النحو فيما كان هيدغر، تلميذ هوسلر يسميه: نسيان الوجود"[2]. ولكن إن كانت العلومُ نسيت وجود الإنسان فإن الروايةَ تذكرته! "لقد اكتشفت الرواية، بطريقتها الخاصة، ومنطقِها الخاص مظاهرَ الوجود المختلفة... الرواية تسبر حياةَ الإنسان الملموسةِ وتحميها من نسيان الوجود"[3].

يقول بروخ: "إن اكتشاف ما لا يتسنى اكتشافُه سوى للروايةِ هو العلة الوحيدة لوجود الرواية، فالرواية التي لا تكتشف جانبا من الوجود بقي مجهولًا إلى الآن هي رواية لا أخلاقية. إن المعرفةَ هي الأخلاق الوحيدة للرواية"[4].

وفي هذا السياق أود أن أقتبس كلام يوسا:

"ومن يبحث في التخييل [الرواية] عما لا يملك، يعبر، من غير ما حاجة لقوله ولا علمه، أن الحياة َكما هي لا تكفي لإطفاءِ غلتنا للمطلق، الذي هو عمادُ الوجودِ لإنساني، وينبغي أن يكونَ أفضل. ونحن نخلقُ التخييل لكي نعيشَ بطريقةٍ ما الحيواتِ المتعددةَ التي نرغب، فيما لا نتوفر بالكاد، سوى على حياةٍ واحدة".[5]



نقلا عن منصة تكوين.


***

[1] جوف، القراءة، 157

[2] كونديرا، فن الرواية، 12

[3] السابق، 13

[4] السابق، 14

[5] خطاب يوسا في استلام نوبل



تعال

تعال



 تنام 

وتترك باب الجنون

وحيدا وراكَ

وإن نمت أنت

فمن لي يجمّل

وقت السهاد

سواكَ؟

وإن كان ليلك نام بدوني

وإن يقترفك الكرى

فالجوى يتلظى ارتباكا.


تعال نقشر تفاحتين

ونعصر ليمونة

ولتصلّ لمائدتي شفتاكَ

تعال نبخر تلك الحكايا

ونشتمّ عنبرها

في سماك

تعال توسد زنود الفراشة

إن حلّقت

رفعتك ملاكا.


تعال أجهز لك القهوة العربية

تسلو هواكَ

تعال أحلّي لك الشاي إن شئت

أو إن أردت 

أملّح فاك

بملح الغناء الذي لا يمل 

من الشدو إن ظللته مناكَ.


تنام وتخلع ثوب القصيد

الذي في منامك عرّى رؤاك

توضأ، هلّل، والزيزفون على ركبتيه

يصلّي لماك

تعال فإن التي 

تحلم الآن بالوصل

فتنة كحلٍ

تمنى لقاك.



أسماء رمرام

ديوان الملح يلفظ ليله

خيال للنشر والترجمة 2022







الثلاثاء، 28 يونيو 2022

لماذا نقرأ الأدب؟ /يوسا

 لماذا نقرأ الأدب؟ – ماريو بارغاس يوسا


دائمًا ما يأتيني شخص حينما أكون في معرض كتاب أو مكتبة، ويسألني توقيعًا، إما لزوجته أو ابنته أو أمه أو غيرهم، ويتعذر بالقول بأنها “قارئة رائعة ومحبة للأدب”. وعلى الفور أسأله: “وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة؟”، وغالبًا ما تكون الإجابة: “بالطبع أحب القراءة، لكني شخص مشغول طوال الوقت”. سمعت هذا التعبير العديد من المرات، وهذا الشخص وبالطبع الآلاف مثله لديهم أشياء مهمة ليفعلوها، فهناك التزامات كثيرة ومسؤوليات أكثر في الحياة، لذلك لا يستطيعون إضاعة وقتهم الثمين بقراءة رواية أو ديوان شعر أو مقال أدبي لساعات. استنادًا إلى هذا المفهوم الواسع، فإن قراءة الأدب هي نشاط كمالي يمكن الاستغناء عنه؛ لا شكّ بأنه يهذب النفس ويزودها بالأخلاق الحميدة وبالإحساس بمن حولها، لكنه في الأساس ترفيه، ترف للأشخاص الذين يملكون وقت فراغ. هو شيء يمكن وضعه بين الرياضات أو الأفلام أو لعبة شطرنج؛ وهو نشاط يمكن أن نضحي به دون تردد حينما نرتب «أولوياتنا» من المهام والواجبات التي لا يمكن الاستغناء عنها في سعينا الحياتي الشاق.


يبدو بشكل واضح أن الأدب شيئًا فشيئًا يتحول إلى نشاط نسوي. في المكتبات، وفي المؤتمرات الخاصة بالكتّاب، وحتى في كليّات العلوم الإنسانية، نرى بوضوح أن النساء أكثر من الرجال. وهذا الأمر يُفسَّر عادةً أن نساء الطبقة المتوسطة يقرأن أكثر لأنهن يعملن لساعاتٍ أقل، لذلك يستطيع العديد منهن تخصيص وقت أكثر من الرجال لقراءة القصص والتفرغ للوهم الذي تخلقه الكتب. وأنا – بشكلٍ ما – أتحسس من التصنيفات التي تفصل النساء والرجال بشكل جامد، وتنزع لكل من الجنسين طبعه الخاص ونتائجًا تترتب من هذه الطباع. لكن مما لا يشك فيه أحد هو أن قراء الأدب في تناقص، وأن غالبية الباقين من القراء هن نساء.


هذا الأمر يحدث في كل مكان تقريبًا. في إسبانيا – على سبيل المثال – كشفت إحصائية حديثة أقامها اتحاد الكتاب الإسبان أن نصف السكان لم يقرؤوا كتابًا من قبل، وكشفت أيضًا أن النساء ضمن الأقلية التي تقرأ يتعدين الرجال بنحو 6.2%، وأن هذا الفارق يزداد مع الوقت. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا تركها.


هم لا يثيرون الشفقة لأنهم يجهلون المتعة التي تفوتهم فحسب، بل أيضًا لأني مقتنع بأن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. أود أن أطرح تفنيدات لفكرة أن الأدب نشاط للمترفين، وأن أعرضه كنشاطٍ لا يستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديمقراطي، أي مجتمع مواطنين أحرار.


نحن نعيش في عصر تخصص المعرفة، وذلك بفضل التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وبفضل تقسيم المعرفة إلى وحدات صغيرة وعديدة. وهذا الاتجاه الثقافي سيستمر بالنمو لسنوات قادمة. للتأكيد، فإن التخصص له منافع عديدة. فهو يسمح باكتشاف أعمق وتجارب أعظم وأكبر، وهو محرك التقدم والتنمية. غير أن له أيضًا عواقبه السلبية، فهو يمحي الصفات الفكرية والثقافية بين الرجال والنساء، والتي تسمح لهم بالتعايش، والتواصل، والإحساس بالتضامن فيما بينهم. يؤدي التخصص إلى نقص في الفهم الاجتماعي، وإلى تقسيم البشر إلى جيتوات[1] من التقنيين والأخصائيين. إن تخصيص المعرفة يتطلب بالتالي لغة دقيقة ورموزًا تزداد غموضًا كل مرة. وبالتالي، فإن المعلومة تصبح أكثر عزلة؛ وهذا هو التخصيص والتقسيم الذي كان يحذرنا منه المثل القديم: “لا تركز كثيرًا على غصن أو ورقة، وتنسى أنهما جزء من شجرة. ولا تركز على الشجرة فتنسى أنها جزء من غابة”. يخلق الوعي بوجود الغابة شعورًا بالجماعة وإحساسًا بالانتماء، ذلك الشعور الذي يربط المجتمع ببعضه ويمنع تفككه إلى عدد لا يُحصى من الأجزاء بسبب هوس الخصوصية الأناني بالنفس. لم يخلق هوس الأمم والأشخاص بأنفسهم إلا الارتياب وجنون العظمة، وتشويهًا في الواقع هو ما يولّد الكراهية، الحروب، وحتى الإبادات الجماعية.


لا يمكن للعلم والتكنولوجيا في عصرنا الحالي أن يكمل بعضهما الآخر، وذلك للثراء اللامتناهي من المعرفة وسرعة تطورها، والذي قادنا إلى التخصصات وغموضها. لكن لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم المشتركة لدى التجربة البشرية، والتي يتعرف البشر من خلاله على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز التاريخ؛ كقرَّاء لكلٍ من ثيرفانتس، شكسبير، دانتي، وتولستوي. نحن نفهم بعضنا عبر الزمان والمكان، ونشعر بأنفسنا ننتمي لذات النوعية، لأننا نتعلم ما نتشاركه كبشر من خلال الأعمال التي كتبوها، وما الذي يبقى شائعًا فينا تحت كل الفروقات التي تفصلنا. لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: أن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال.


لا يوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والاجتماعية ثراء الجنس البشري، ولا يوجد ما هو مثل الأدب لكي يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. صحيح أن قراءة الأدب مصدر للمتعة، ولكنه أيضًا مصدر لمعرفة أنفسنا وتكويننا عبر أفعالنا وأحلامنا وما نخاف منه بكل عيوبنا ونقائصنا، سواء كنا لوحدنا أو في خضم الجماعة، وسواء كانت تلك الملاحظات تبدو ظاهرة للعيان أو تقبع في أكثر تجاويف الوعي سرية.


هذا المجموع المعقد من الحقائق المتعارضة – كما يصفها أشعيا برلين[2] – يشكل جوهرًا للحالة الإنسانية. في عالم اليوم، لا يوجد هذا المجموع الضخم والحي من المعرفة في الإنسان إلا في الأدب. لم تستطع حتى فروع العلوم الإنسانية الأخرى – كالفلسفة أو الفنون أو العلوم الاجتماعية – أن تحفظ هذه الرؤية المتكاملة والخطاب الموَحَّد. خضعت العلوم الإنسانية أيضًا لتقسيم التخصصات السرطاني، وعزلت تلك التخصصات نفسها في أقسام مجزأة وتقنية بأفكارٍ ومفرداتٍ لا يستوعبها الشخص العادي. يود بعض النقاد والمنظرين تحويل الأدب إلى علم، وهذا ما لن يحصل أبدًا، لأن الكتابة القصصية لم توجد لتبحث في منطقة واحدة من تجربة الإنسان. وُجدت الكتابة لكي تثري الحياة البشرية بأكملها من خلال الخيال، والتي لا يمكن تفكيكها، أو تجزئتها إلى عددٍ من المخططات أو القوانين دون أن تضمحل. هذا ما قصده مارسيل بروست حينما قال أن “الحياة الواقعية، هي آخر ما يكتشف وينوَّر. وأن الحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها هي الأدب”.


لم يبالغ بروست عندما قال ذلك، ولم يكن كلامه مجرد تعبير عن حبه لما يجيد. كان يقدم قناعته الخاصة بأن الأدب يساعد على فهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل، وأن العيش بطريقة أقرب للكمال يتطلب وجود الآخرين بجانبك ومشاركتهم الحياة.


هذا الرابط الأخوي، الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب، يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحو جميع الحواجز التاريخية. ينقلنا الأدب إلى الماضي، إلى من كان في العصور الماضية قد خطط، استمتع، وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا، تلك النصوص التي تجعلنا أيضًا نستمتع ونحلم. الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو أعظم إنجاز للثقافة، ولا شيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب.


كان بورخيس ينزعج كثيرًا كلما سُئِلَ “ما هي فائدة الأدب؟”. كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجاوب بأنه “لا أحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل.”. إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟ لكن السؤال جيد بالفعل، لأن الروايات والقصائد لا تشبه بأي حال تغريد الكناري أو منظر الغروب؛ فهي لم توجد عن طريق الطبيعة أو المصادفة، بل هي إبداعات بشرية. ولذلك فمن اللائق أن نسأل كيف ولماذا أتت إلى العالم، وما فائدتها ولماذا بقت كل هذه المدة.


تأتي الأعمال الأدبية – في البداية كأشباح بلا شكل – أثناء لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعي الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في ذات الوقت. وهي ذاتها تلك الأمور التي يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات لينتج بشكل تدريجي شكل النص، وإيقاعه، وحركته وحياته. صنعت اللغة هذه الحياة المصطنعة، وللدقة هي حياة مُتخَيلة، وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة. بعضهم بشكل متكرر، والبعض الآخر بشكل متقطع؛ وذلك لأنهم يرون أن الحياة الواقعية لا ترقى لهم، وغير قادرة على تقديم ما يريدون. لا ينشأ الأدب من خلال عمل فردٍ واحد، بل يوجد حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الاجتماعية عندما يتحول، وبفضل القراءة، إلى تجربة مشتركة.


تكمن إحدى منافع الأدب للشخص في المقام الأول في اللغة. المجتمع الذي لا يملك أدبًا مكتوبًا يعبر عن نفسه بدقة أقل، وبشكل أقل وضوحًا من مجتمع يحمي طريقة التواصل الرئيسية له، وهي الكلمة، بتحسينها وتثبيتها عن طريق الأعمال الأدبية. لن تنتج أي إنسانية بلا قراءة ولا مصاحبة للأدب إلا ما هو أشبه بمجتمع صم وبكم وناقص الفهم، وذلك لعلته اللغوية؛ وسيعاني من مشاكل هائلة في التواصل نظرًا للغته البدائية. وهذا يقع على مستوى الأفراد أيضًا، فالشخص الذي لا يقرأ، أو يقرأ قليلًا، أو يقرأ كتبًا سيئة، سيتكون لديه عائق مع الوقت: ستجده يتحدث كثيرًا ولكن المفهوم قليل، لأن مفرداته ضعيفة في التعبير عن الذات.


وهذا الأمر لا يعني وجود قيد لفظي فقط، ولكن أيضًا وجود قيد في الخيال والتفكير. هو فقر فكري لسبب بسيط، لأن الأفكار والتصورات التي يمكن من خلالها فهم حالاتنا لا يمكن لها التكون خارج اللغة. نحن نتعلم كيف نتحدث بعمق وبدقة وبمهارة من الأدب الجيد. لن يجدي أي انضباط آخر في أي فرع من فروع الفن ماعدا الأدب في صناعة اللغة التي نتواصل بها. أن نتحدث جيدًا، أن يكون تحت تصرفنا لغة ثرية ومنوعة، أن نجد التعبير الملائم لكل فكرة ولكل شعور نود أن نتواصل به، يعني بالضرورة أن نكون جاهزين للتفكير، وأن نعلِّم ونتعلم ونناقش، وأيضًا لأن نتخيل ونحلم ونشعر. بطريقة خفية، تردد الكلمات صداها في جميع أفعالنا، حتى تلك الأفعال التي لا يمكن أن نعبر عنها. وكلما تطورت اللغة – وذلك بفضل الأدب – ووصلت لمستويات عالية من الصقل والأخلاق، زادت من مقدرة الإنسان لعيش حياة أفضل.


عمل الأدب حتى على صبغ الحب والرغبة والجنس بصبغة الإبداع الفني. لم يكن الشبق ليوجد بدون الأدب. الحب والمتعة سيكونان أسوأ بحيث ينقصهما الرقة والروعة. سيفشلان في تحقيق الحالة القصوى التي يمنحها الأدب. لذلك فإني لا أبالغ حينما أقول أنّ الثنائي الذي يقرأ لغارثيلاسو، بترارك، جونجورا أو بودلير[3] يقدران المتعة ويعيشانها بخلاف الثنائي الذي صار أبلهًا بمشاهدة ما يسمى بـ«الأوبرا الصابونية[4]» في التلفاز. لن يتعدى الحب والرغبة في عالمٍ أمّي ما ترضى به الحيوانات، كما أنها لن تتجاوز الوفاء بالأساسي من الغرائز.


وبطبيعة الحال، لا يمكن لوسائل الإعلام السمعية والبصرية أن تعلم الناس كيف يستخدمون الإمكانيات الهائلة للغة بمهارة وثقة. على النقيض من ذلك، تعمل وسائل الإعلام على الحط من قدر الكلمة إلى منزلة أقل بجانب الصورة، والتي تعد اللغة البدائية لتلك الوسائط، وتعمل أيضًا على تقييد اللغة بالتعبير الشفوي إلى الحد الذي لا يمكن الاستغناء عنه بعيدًا عن البُعد الكتابي للغة. أن تصف فيلمًا أو برنامجًا تلفزيونيًا بالأدبي فهذه مجرد طريقة لبقة عوضًا عن وصفه بالممل. لهذا السبب، من النادر أن نرى العامة ينجذبون لمثل هذه البرامج. وحسب ما أعرف، فإن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو برنامج بيرنار بيفو[5] «فاصلة عليا» في فرنسا. وهذا يقودني إلى الاعتقاد بأن الأدب ليس فقط متطلَّبًا لمعرفة كاملة باللغة واستخدام أكمل لها، بل أن مصيرها مرتبط بشكل لا ينفصل بمصير الكتاب، ذلك المنتج الصناعي الذي يعتبره الكثيرون بأنه قد عفا عليه الزمن.


هذا الحديث يقودني إلى بيل جيتس، كان في مدريد منذ فترة ليست بالطويلة وزار الأكاديمية الملكية الإسبانية، والتي قد عقدت شراكة مع مايكروسوفت. ضمن أشياء أخرى، طمأن جيتس أعضاء الأكاديمية وأكد بأن الحرف «fl» لن يحذف من برامج الحاسب، كان ذلك الوعد يكفل لأربعمائة مليون متحدث بالإسبانية أن يتنفسوا الصعداء بما أن حذف حرف أساسي مثل هذا سيؤدي إلى مشاكل كبرى. على كل حال، بعد تنازله الودي للغة الإسبانية، أعلن جيتس قبل أن يغادر مقر الأكاديمية في مؤتمر صحفي أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق، ومن ثم للكتب.


يرى جيتس بأن الكتب أشياءٌ عفا عليها الزمن، وقال بأن شاشات الكمبيوتر قادرة على القيام بمهمات الورق الذي يستطيع عملها. أصر أيضًا أنه بالإضافة إلى كونها أقل مشقة من ناحية الاستعمال، فشاشات الكمبيوتر تأخذ مساحة أقل، وهي أسهل للتنقل، وأيضًا بأن نقل الأخبار والآداب إلى هذه الشاشات سيكون له فائدة بيئية لإيقاف تدمير الغابات، وأن صناعة الورق هي أحد أسباب التدمير. أكد أيضًا بأن الناس سيستمرون بالقراءة، لكن على شاشات الكمبيوتر، وبالتالي سيكون هناك المزيد من الكلوروفيل في البيئة.


لم أكن حاضرًا خلال خطاب جيتس، وعلمت بكل هذه التفاصيل عن طريق الصحافة.  ولو كنت هناك، لأعلنت استهجاني لجيتس كونه قد أعلن بوقاحة نيته إرسالي أنا وزملائي الكتّاب إلى خط البطالة. ولكنت تنازعت معه بقوة بخصوص تحليله. هل تستطيع الشاشة حقًا استبدال الكتاب من جميع الجوانب؟ أنا لست متأكدًا. أنا واعٍ تمامًا للتطور الهائل الذي سببته التكنولوجيا الجديدة في مجال الاتصالات وتبادل المعلومات، وأعترف بأن الانترنت يؤدي لي مساعدة لا تقدر بثمن كل يوم في عملي؛ لكن امتناني لهذه الراحة لا يتضمن اعتقادًا بأنه يمكن للشاشات الإلكترونية أن تستبدل الورق، أو أن القراءة بالكمبيوتر يمكن أن تفي للقراءة الأدبية. هذه فجوة لا أستطيع تخطيها. لا أستطيع قبول فكرة أن تحقق القراءة غير الوظيفية، التي لا نبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع، توفر نفس تلك الأحلام ومتعة قراءة الكلمات مع نفس الإحساس بالحميمية، ومع نفس التركيز العقلي والعزلة الروحية التي يمنحها الكتاب.


ربما يصدر تحيزي هذا لكوني لم أمارس القراءة الالكترونية، وكوني تعاملت بعلاقة أدبية طويلة مع الكتب والورق. لكني على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الانترنت، لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرًا لجونجورا، أو رواية لخوان كارلوس أونيتي[6] أو مقال لأوكتافيو باث[7]، لأنني موقن بأن أثر تلك القراءة لن يكون مثل القراءة بالورق. أنا مقتنع، بالرغم من أني لا أستطيع إثبات ذلك، بأن مع اختفاء الورق سيعاني الأدب من ضربة مهولة، وربما مميتة. كلمة «أدب» لن تختفي بالطبع، لكنها ستدل على نصوص هي بعيدة عما نسميه أدبًا هذه الأيام، كبعد الأوبرا الصابونية عن مسرحيات سوفوكليس وشكسبير.


لا يزال هناك سببٌ آخر لمنح الأدب منزلته الهامة في حياة الأمم. بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية، من خسارة لا تُعوّض. هذا بسبب أن الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادة عن العالم الذي نعيشه. في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية.


لا يقول الأدب شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، لمن يرون الحياة بما يعيشونها الآن. الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملجأ لمن لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا في الحياة. يبحث الشخص منا عن ملاذه في الأدب حتى لا يكون هادئًا ومطمئنًا. أن تركب جنبًا إلى جنب مع ذلك السائس الهزيل وذلك الفارس المرتبك في حقول لامانشا، أن تبحر على ظهر حوت مع الكابتن آهاب، أن تشرب الزرنيخ مع إيما بوفاري، أن تتحول إلى حشرة مع غريغور سامسا، هذه كلها طرقٌ اخترعناها لنجرد أنفسنا من أخطاء وإملاءات هذه الحياة الظالمة، هذه الحياة التي تجبرنا دائمًا أن نكون الشخص نفسه، بينما نتمنى أن نكون مختلفين لكي نرضي رغباتنا التي تتملكنا.


يهدئ الأدب هذا الاستياء الحيوي للحظات، لكن في هذه اللحظات الخارقة، في هذا التعليق المؤقت للحياة، هذا التخييل الأدبي ينقلنا لخارج التاريخ، ونصبح مواطنين لأرض لا تنتمي للزمان، وبالتالي هي أرض خالدة. فنصبح أكثر حساسية، وثراء، وأكثر تعقيدًا وسعادة، وأكثر وضوحًا مما نحن عليه في حياتنا الرتيبة. عندما نغلق الكتاب ونتخلى عن الخيال الأدبي، نعود إلى وجودنا الفعلي ونقارنه بالأرض المذهلة التي غادرناها توًا. ويا للخيبة التي تنتظرنا! لكن هناك إدراكًا هائلًا ينتظرنا، وهي أن الحياة المتخيَّلة من الرواية أجمل وأكثر تنوعًا، أكثر فهمًا وأقرب للكمال من الحياة التي نعيشها ونحن واعون، تلك الحياة التي تحدها الظروف وضجر الواقع. بهذه الطريقة، نرى الأدب الجيد الحقيقي دائمًا كهدّام، كمتمرد ومقاوم، أي أنه تحدٍ لما هو موجود.


كيف لا يمكن أن نشعر بالخداع بعد قراءة «الحرب والسلام» أو «البحث عن الزمن المفقود» ونعود إلى عالمنا ذو التفاصيل التافهة، هذا العالم المليء بالحدود والموانع التي تقف بانتظارنا في كل مكان وفي كل خطوة لتفسد خيالنا؟ أكبر مساهمة للأدب في التقدم البشري فوق مهمته لاستمرارية الثقافة ولإثراء اللغة – دون قصد، وفي معظم الحالات – هي تذكيرنا بأن العالم جُعل سيئًا، وأن من يدعي العكس من الأقوياء والمحظوظين يكذب، وأن الكلمة يمكن أن تُطوَّر وتكون أقرب للعوالم التي يستطيع خيالنا ولغتنا تشييدها. يجب أن يحتوي المجتمع الحر والديمقراطي مواطنين واعين بالحاجة المستمرة للكلمات التي نعيشها ونحاول – بالرغم من أن المحاولة تكاد تكون مستحيلة – أن نجعلها تشبه العالم الذي نود أن نعيشه؛ وليس هناك من وسيلة أفضل من قراءة الأدب الجيد لإثارة عدم الرضا عما يوجد الآن، وتكوين مواطنين ناقدين ومستقلين عمن يحكمهم، ويمتلكون روحية دائمة وخيالًا نابضًا.


مع ذلك، أن يُسمى الأدب بالتحريض لأنه يحسس وعي المواطن لعيوب العالم لا يعني بالضرورة – كما يبدو أن الحكومات والكنائس تفكر، ولذلك أنشأت الرقابة – أن النصوص الأدبية ستثير اضطرابات اجتماعية أو تسرع نشوء ثورات. لا يمكن التنبؤ بالتأثير الاجتماعي والسياسي لقصيدة أو رواية أو مسرحية، لأنها لم تصنع بشكل جماعي من عدة خبراء. تصنع هذه الأعمال من قِبل أفراد وتُقرأ من قِبل أفراد ممن تختلف استنتاجاتهم بشكل كبير عندما يكتبون أو يقرأون. لذلك من الصعب، بل من المستحيل، أن تنتج أنماطًا وردود أفعال دقيقة في اتجاه واحد. فضلًا عن ذلك، قد تكون القيمة الجمالية لعمل أدبي ما سببًا في حدوث القليل من العواقب الاجتماعية. يبدو أن هناك رواية متواضعة لهارييت ستاو[8] قد لعبت دورًا حاسمًا في تنبيه الوعي السياسي والاجتماعي لفظاعات العبودية في الولايات المتحدة. إذًا، واقع ندرة تأثيرات الأدب لا يعني أنها ليست موجودة. ما يجب أن نعرفه هو أنها آثار صنعت من قِبل مواطنين تغيرت شخصياتهم جزئيًا بسبب الكتب.


فلنعد صياغة التاريخ بلعبة رائعة. ولنتخيل عالمًا بدون أدب، أي إنسانية لم تقرأ الشعر ولا الروايات. في هذا النوع من الحضارات الضامرة، بقواميسها الهزيلة التي تحفل بالآهات وإيماءات القرود على حساب الكلمات، من المؤكد أن بعض الصفات لن توجد. وتشمل تلك: حالم كيخوتي، مأساوي كافكاوي، سوداوي أورويلي، ساخر رابيلي، سادي، ماسوشي، وكلها ذات أصول أدبية. وللتأكد من ذلك، سيبقى لدينا مجانين، وضحايا جنون عظمة واضطهاد، وأشخاص بشهوة عادية وتجاوزات فاحشة، وأناس منحطين لدرجة الحيوانات يستمتعون بتلقي الألم وتسليطه. لكننا لن نستطيع أن نرى ما خلف هذه السلوكيات المتطرفة المحظورة من قبل قواعد المجتمعات، تلك الخصائص الأساسية في الإنسان، لم نكن لنرى السمات الخاصة بنا؛ لذلك نحن مدينون لمواهب ثيرفانتس، كافكا، أورويل، رابيليه، دو ساد، وماسوش[9] لأنهم استطاعوا كشفها لنا.


عندما ظهرت رواية «دون كيخوته دي لامانشا»، سخر قراءها الأوائل من هذا الحالم المتطرف كما سخرت منه بقية الشخصيات في تلك الرواية. اليوم، نحن نعرف أن إصرار ذلك الفارس ذو الوجه الحزين على رؤية عمالقة بينما كان هناك طواحين هواء، وعلى التصرف بطريقة تبدو سخيفة، هو الشكل الأعلى للكرم، وهو تعبير عن مظاهرة تجاه بؤس هذا العالم على أمل تغييره. تفوح مفاهيمنا عن المثالية والمثاليين بمعانٍ إيجابية ثانوية، ولن تكون هذه المعاني ما هي عليه، ولن تُحترم وتكون واضحة، لو لم تجسد في بطل الرواية بتلك القوة المقنعة لثيرفانتس العبقري[10]. يمكن أن يُقال نفس الشيء عن الأنثى الصغيرة الأقرب لكيخوته، إيما بوفاري، والتي قاتلت بحماس لتعيش الحياة الرائعة من الفخامة والشغف، والتي عرفتها وقرأت عنها من الروايات، كفراشة اقتربت كثيرًا من ضوء اللهب واحترقت بالنار.


فتحت تلك الإبداعات لكل أولئك الأدباء المبتكرين العظماء أعيننا على آفاقٍ مجهولة لحالاتنا البشرية، جعلتنا نستطيع اكتشاف وتفهم الهوة البشرية المشتركة. عندما نقول كلمة «بورخيسي»، فإن تلك الكلمة تستحضر فصل عقولنا عن منطق الواقع وتدخلنا إلى عالمٍ مذهل، إلى عقلية دقيقة وأنيقة وغامضة أشبه بالمتاهة، بكل تلك المراجع والإشارات الأدبية، والتي لا نشعر بالغرابة تجاه شخصياتها. لأننا نتعرف فيها على رغباتنا الخفية وحقائقنا الحميمة الخاصة بشخصياتنا، والذي أخذت شكلها بفضل الإبداع الأدبي للويس خوسيه بورخيس. عندما نذكر كلمة «كافكاوي» تتبادر إلى الذهن – كميكانيكية التركيز في الكاميرات القديمة – كل مرة شعرنا بها بأننا مهددون، كل مرة شعرنا بأنا أفراد لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا ضد كل أجهزة السلطة القمعية التي سببت الخراب للعالم الحديث، كل الأنظمة السلطوية، والأحزاب العمودية، والكنائس المتعصبة، والبيروقراطية الخانقة. لم نكن لنستطيع فهم الشعور بالعجز لدى الفرد المعزول والإحساس برعب الأقليات المضطهدة والتي تعاني التمييز من القوة الطاغية التي يمكنها سحقهم والقضاء عليهم من دون تلك القصص القصيرة والروايات لذلك اليهودي المعذَّب من براغ، الذي كتب بالألمانية وعاش دائمًا على اطلاع على ما حوله وما عليه.


صفة الأورويلي، وهي الصفة الأقرب للكافكاوي، تعطي تنبيها لتلك السخافة الرهيبة التي صُنعت من قِبل الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، تلك الديكتاتوريات الأكثر توحشًا وتعقيدًا في التاريخ، في تحكمهم بأفعال وأحاسيس المجتمع. في رواية 1984، وصف جورج أورويل في جو بارد موحش تلك الإنسانية المحكومة للأخ الأكبر، الحاكم المُطلق، والذي بواسطة مزيج مخيف من الرعب والتكنولوجيا، محق الحريات والمساواة والعفوية، وحول المجتمع إلى خلية نحل من البشر. في هذا العالم الكابوسي، تم تطويع اللغة لصالح السلطة، وحُولت إلى “خطاب جديد”، خالٍ من أي ابتكار وموضوعية، خطاب ممسوخ إلى سلسلة من التفاهات التي تضمن عبودية الفرد للنظام. صحيح أن نبوءة 1984 لم تمر حتى الآن، وأن الشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفيتي ذهبت مع الفاشية الشمولية في ألمانيا وأماكن أخرى، وبعد ذلك بوقتٍ قصير بدأت تتداعى في الصين، وفي كوبا وكوريا الشمالية اللتين تنتميان للماضي. لكن الخطر لم يُمْح بعد، وكلمة «أورويلي» ستبقى لتصف الخطر، ولتساعدنا على فهمه.


ويبقى أيضًا خيال الأدب واستعاراته أداة ثمينة لمعرفة أكثر الجوانب الواقعية المخفية في البشر. ولكن ما تعرضه الكتب الأدبية ليس ساحرًا على الدوام، بل ربما ما نرى أنفسنا فيه من خلال الروايات والقصائد ما هو إلا مرأى وحوش. يظهر ما أتحدث عنه حينما نرى التصوير الوحشي الفاحش فيما كتبه دو ساد، أو تلك الجروح الغائرة والتضحيات الفظيعة التي تملأ الكتب اللعينة لكلٍ من ماسوش وباتاي[11]. قد تصبح مثل هذه المشاهد مهينة ووحشية إلى درجةٍ لا تقاوم، ولكن الأسوأ فيها ليس الإهانة أو الدم المراق أو مجرد الحب الممزوج بالتعذيب، بل الأسوأ هو أن نكتشف أن ذلك العنف والإفراط ليس غريبًا عنا، بل هو جزء عميق في الإنسانية. تلك الوحوش التواقة للانتهاك والإثم تقبع في أكثر تلاقيف وجودنا خفية، وهي تسعى في الظل لكي تظهر متى ما سنحت الفرصة، وتفرض سيادة الرغبة الجامحة التي تدمر بدورها العقلانية والمجتمع وحتى ذاتها أيضًا. وبذلك، نتأكد بأنفسنا أن العلم لم يكن السبّاق إلى كشف مثل تلك الأماكن المظلمة في العقول، والتي تشكلها رغبة دفينة بتدمير النفس والجميع، وإنما الأدب الذي اكتشف ذلك وعرّاه لأول مرّة. أي عالم من دون أدب سيبقى أعمى عن هذه الأعماق الخطرة، والتي نحتاج أن نراها في أسرع وقت.


لن يكون هذا العالم من دون أدب سوى عالم غير حضاري، بربري يخلو من العاطفة، وذو خطاب جلف جاهل ومأساوي، ويعيش من دون شغف وجلف حتى في حبه. هذا الكابوس الذي أحذر منه وأرسم معالمه، سيكون سمته الأساسية الانسياق وتسليم عالمي لبني البشر إلى السلطة. بهذا المنطق، سيكون عالمًا حيوانيًا. ستحدد الغرائز الأساسية لدى الإنسان مشواره اليومي باتجاه سدّ الجوع والشقاء لكي يبقى، وستحدده بالخوف من المجهول وإشباع الحاجات المادية. لن يكون هناك مكان للروح في هذا العالم. وفوق ذلك، ستولد رتابة العيش المسحوق الإحباط وستلقي بظلال شريرة للتشاؤم، وسينمو شعور بأن الحياة البشرية ما كان لها أن توجد، وأنها ستكون هكذا دائمًا، وأن لا أحد يمكنه تغييرها.


عندما يتخيل الواحد منا هذا العالم، تقفز إلى ذهنه تلك المجتمعات الصغيرة التي يختلط فيها الدين بالشعوذة، والتي تعيش على هامش التطور في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأوقيانوسيا. لكن فشلًا مختلفًا يخطر في بالي. الكابوس الذي أحذركم منه لن يكون نتيجة قلة التطور، بل سيكون نتيجة التحديث والتطوير المفرط. نتيجة للتكنولوجيا وتبعيتنا لها، قد نتصور مجتمعًا في المستقبل وهو ممتلئ بالشاشات والسماعات، ومن دون كتب؛ أو في مجتمع يعتبر الكتب – وأقصد هنا الأعمال الأدبية – ما كانوا يعتبرون الخيمياء: ذلك الفضول القديم، والشيء الذي يُمارس في سراديب ومقابر حضارة الإعلام وسلطته من قِبل أقلية عُصابية ومضطربة. وأخشى أن هذا العالم المعرفي، على الرغم من ازدهاره وقوته، وهذا المعيار العالي من المعيشة والإنجاز العلمي، من شأنه أن يكون غير متحضر بعمق وسيكون خالي الروح. ستكون إنسانية آلية تركت حريتها بمجرد أن تخلت عن الأدب.


ليس من المرجح، بالطبع، أن هذه اليوتوبيا المروعة سوف تأتي. نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد، ما سيأتي لاحقًا مرهون برؤيتنا وبإرادتنا. ولكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم أي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق، يجب أن نقرأ.


ترجمة: راضي النماصي

الاثنين، 23 مايو 2022

عن: الملح يلفظ ليله

 بقلم: حنان بركاني

***


لفتني ذات يوم عنوان " حليب أسود" رواية الكاتبة التركية " إليف شفق" و رغبتي الشديدة في قراءته كانت لاكتشاف كيف يتحول الحليب إلى أسود، وأذهلتني تلك الرواية وتلك التجربة الساحرة التي مرت بها الكاتبة (اكتئاب ما بعد الولادة) ، وأنا أقف أمام التساؤل نفسه أمام عنوان : " الملح يلفظ ليله" لأنه يمنح للملح بعدين ، الأول يتعلق باللون كما الحليب (الأبيض) بإضافة لون معاكس له، والبعد الزمني: إن كان للملح ليل فإن له نهارا ؟ ولماذا يلفظ ليله تحديدا ؟ 

الملح ورغم طعمه الذي لا يمكن أن نفرط في استهلاكه يبقى مطهرا للجراح وطاردا للطاقة السلبية في حكايات الجدات والامهات.

واعتقد أنه عنوان ذكي فيه بعد جمالي، هذا هو العنوان الذي وسمت به أسماء رمرام ثالث عمل لها في الشعر.

واستهلته باهداء بقدر بساطته واختصاره يأتي مفتوحا على تأويلات عديدة: إليه. ثم نقطة تحسم بها إهداءها كأنها واثقة تماما ومدركة أن العمل " له" وحده فعلى من يعود الضمير الغائب هنا؟ شخص؟ ألم؟ حرف؟ 

وتنتقي بعناية العتبة التي تفرش عليها لاحقا نصوصها: 

يزيد يقيني في كل يوم 

بأني كعود الثقاب الذي لن يضيء

سوى مرة واحدة 

فكن هذه المرة الواحدة

ودعني أضيء بحقلك ليلا

فوحدك تملك سر الثقاب

الذي قد يضيء

ل: روضة الحاج

وهي عتبة تحمل جانبين متضادين جاءا امتدادا للعنوان كأنها بصدد تصميم عقد: عود الثقاب الذي يضيء (الضوء/ النور)

حقلك ليلا (الظلام/ العتمة) 

أي نحن نتمرج بين ماهو جلي واضح، وماهو خفي غامض، بين حالة انكسار توقعنا في حجيم السواد، وأمنية الخلاص التي لخصتها بائعة الكبريت في قصتها وهي تعاود إيقاد عود ثقاب لتتخلص من برد الثلج. وان شئنا قلنا أنه تمثيل رائع ل (طقوس العبور rit de passage) من حالة إلى أخرى، ليست حالة عاطفية إنما نفسية واجتماعية. الحالة التي يكون فيها الملح في البداية ممتلئا بليله وما يصاحب الليل من أسرار واعترافات وآلام إلى النهاية المتمثلة في الصبح المضيء الأبيض الذي قد يمثل الحكمة أو النضج أو التقدير الذاتي المرافق لكل تجربة.

قدمت الديوان الأستاذة نائلة الشقراوي بتقديم عنوانه: المنحى الجمالي في ديوان (الملح يلفظ ليله) وختم الديوان بـ "سؤال الشعر" وهي قراءة للدكتور جاسم خلف الياس من العراق "قراءة في قصائد منتخبة للشاعرة أسماء رمرام" 

بين القراءتين تحجز لنا أسماء تذكرة عبر نصوصها 22، وكل من يقرأ لأسماء سيجد قدرتها على خلق صور شعرية بالغة الجمال، أول نصوصها " الملح يلفظ ليله" هو نقل لحالة التيه والضياع التي تعيشها الشاعرة: 

أعود إلي

وما عدت أعرف أي الجهات

تقود إلي

ولا عدت في الحب أحمل بوصلة

أو أشاور حدسي

وماعاد في أرضي المستغيثة بالماء

نهر

استعملت الشاعرة ما يكفي من الكلمات للدلالة على ضياعها: جهات، لا أعرف، بوصلة ، أرض ، حدس

وتأتي لاحقا لتخاطب من سبب لها خللا في حواسها وجهاتها، لتستنكر وتحتج على ما آلت إليه بسؤال: 


...

يسلّي اليباس الذي في عروقي

ويرجعني

 غيمة للسؤال

أتعرف أي الجهات تبلل شاعرة

أرهقتها

مواسمك اليابسات؟

تستلهم الشاعرة من الطبيعة حالاتها الشعرية لتمثل حالتها فتنتقل بنا من حالة اليبس والجفاف إلى الغيم والبلل

فبعد أن تصف لنا حالتها ، تطرح السؤال الذي ينجدها ثم تجيبنا:

أتعرف أني عثرت على صورتي

في جيوب المسافة

تحملها الريح

مذهولة

العود إلى الحالة الاولى نفسها، لأن الريح تذرو كل ماتجد في طريقها وتحمله بلا هدى. و بلا شك أن هذا الشتات ، هذه اللاجدوى ، حالة الانكار تسبب ألما لا يمكن مداراته بالأسئلة ولا تضميده بالملح، فيصبح هذا الأخير شريكا في الوجع لا أكثر:

يا أيها الملح

كم عمرنا في المسافة؟

كم ليلة

جمعتنا معا؟

و كم كأس شاي شربنا ؟

كم قبلة لملمت بردنا؟

وكيف استطاعت عراه الحبيبة

أن تلفظ الليل والذكريات؟

تواصل أسماء رمرام في نصوصها الباقيات عرض قصة الحب، والاشتباك الذي ينشب بين الحبيبين ، ولتفضه تستنجد بالسؤال:

لماذا إذن

حين تخرج مني خفيفا

تقبّح ما جمّل الحب في ليلنا

واصطفاه؟

إن القارئ لأسماء رمرام سيكتشف أنها تمثل الاشياء وتمنحها الحياة فالأشياء التي اعتدنا عليها ككلمات لا كملموسات تصورها لنا : أعود إلى زمني في القصيدة

ألبس نعل الخيال

كيف تعود إلى زمن القصيدة؟ لولا كون القصيدة مكان له امتداده الزماني ؟ وكيف تنتعل الخيال لولا الخيال مايمكن أن نرتديه ونمشي على سبيله .

تواصل الشاعرة اللعب على وتر الكلمات بتوظيفها بما يجعلنا نتساءل :

لماذا تركت الحديقة عطشى؟

لماذا سقيت الأكاليل صوتا

هو تقديم لصورتين على سبيل المجاز: لا تعطش الحديقة إنما نباتاتها

وهل تسقى النباتات بالصوت ؟

وان كانت صيغة الأنثى في اللوم والعتاب هي السؤال والتساؤل، فإنها تتعب سريعا و تقول ما تريد، وقدمت أسماء هذه الصورة العامة للنساء وجاء اعترافها بما تريد كالآتي:

أنا امرأة

لي ككل النساء عبير

وبوصلة

واحتياجات أنثى

تغرب

كي تحبس الشمس في غرفة حين تبكي

تشرق

كي تحبس الفجر في كأس شاي

إذا أزهرت في الصباح الوثير

تلمع مرآتها كل يوم

وتفرح في سرها بارتجاف السرير

إذا هزه الحب في ليلها المشتهى

وفي نص آخر:

أنا في المجاز أرطب صوتي

فينشق ناي

وينمو نخيل

ويورق في الصوت شوق الأماسي

إذا جن في البعد

ليل طويل

أليس الذي سقاه انهمارك كالماء

تسكبه السلسبيل ؟

فاغدق رعاك الإله رسيلا

وأقبل ففي القلب قول ثقيل

هذه الشاعرة التي تجزئ روحها على مدار النصوص وتكتب بلغة اللون قدمت نصوصا رائعة بين حب و شوق ، بين لهفة وصمت بين ليل ونهار بين فرح و حزن ، جاءت النصوص مؤثثة بهذه الثنائيات وسأضع مقتطفات في الصور المرفقة.

ومع أن النصوص كلها لا ترتكز على مكان معين باستثناء نص عن افريقيا ولا تنسب الوقت إلى زمن معين إلا أنها في نصها الذي أهدته للشاعرة حسناء بن نويوة وقعت جزائريتها بمقطع:

تعالي

فصينية القهوة العربية

تبكي

ومن دون عينيك ظل

يصلي

غريبية ، والفناجين تسأل

هل في الفناجين

يخفى السؤال؟

ونحن نعرف قدسية الضيافة في التقاليد الجزائرية بصينية النحاس ، والقهوة واختارت الشاعرة نوع الحلوى ( غريبية) .

^^^

نصوص مشتعلة بالأسئلة، تطفئها الحروف بالاعترافات و المشاعر بالبلل.

الملح يلفظ ليله هو وجه لامراة تزينت بالكحل لكنها لم تجد غير الدموع لتكتب حبها و شوقها وحنينها وبحثها عن الأمن والسلام، وجاءت صورة الغلاف اختصارا للجملة الأخيرة بعيون محجرها كله أسود، كأنها ترتدي أجنحة بيضاء.

شكرا أسماء على الكتاب ورقيا ، له سحره وأتمنى أن أقرأ لك مجددا

الاثنين، 11 أبريل 2022

مقدمة ديوان "لن" لأنسي الحاج

 



هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ النثر محلول ومرخي ومبسوط كالكف، وليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه. طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أوبرهانية، إنه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضد. القصيدة عالم مغلق، مكتف بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة.

النثر سرد، والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير، النثر يتوجه إلى شيء، يخاطب وكل سلاح خطابي قابل له. النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة، والتوسع، والاستطراد، والشرح، والدوران، والاجتهاد الواعي- بمعناه العريض- ويلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع. الشعر يترك هذه المشاغل: "الوعظ والإخبار والحجة والبرهان، ليسبق. إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقل تورطا في الزمن الموقت والقيمة العابرة، أكثر ما تكون امتلاكا للقارئ، تحريرا له، وانطلاقا به، بأكثر ما يكون من الإشراق والإيحاء والتوتر.

أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه. القصيدة، لتصبح هكذا، يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها وإنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها وتكريرها، وشد حزمتها. القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر. القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر، بشعره، إلى خلقه. قد يكون في ديوان ما شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كله قصيدة واحدة، فالقصيدة، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه.

النثر، تقول العرب، خلاف النظم من الكلام. النثر، يقول الفرنجة، كل ما يقال ويكتب خارج النظم. القصيدة من أبيات، بل يذهب العرب إلى الاشتراط: ما فوق السبعة أو العشرة أبيات؛ والتحديد الكلاسيكي للقصيدة عند الفرنسيين هو أن تكون مجموعة كبيرة من الأبيات. بكلمة: النثر خلاف الشعر (لأن الشعر، لا القصيدة وحسب، هو النظم في نظر التقليديين) والقصة، وهي كائن نثري، خلاف القصيدة التي هي كائن شعري. وهنا يبدو البحث في قصيدة النثر هذيانا.

لكن التحديد الكلاسيكي للأشياء خاضع للتطور، وما يشتقه أو ما يبدعه التطور ويبقى حيا أي ملبيا لحاجات الإنسان لا محض موجة تكسرها في أثرها موجة، يحتل مكانه إما بجانب المفاهيم السابقة أو على أنقاضها. وما يجوز على المفهوم يجوز على العطاء. قصيدة النثر احتلت في أدب كأدب فرنسا مكانها الطبيعي حيث تمثل أقوى وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن. أما عندنا فأخف ما تنعت به، على العموم ، أنها هجينة، وأرصن ما يقول فيها المترصنون أنها سحاب زائل يغشى السماء الأزلية. خارج بضعة من المرافقين المتفهمين، يمكننا أن نرى المهلل الذي يهلل لكل جديد سعيا خلف إرواء ظمأ سطحي إلى إثارة كإثارة الزي، والصعلوك الذي يعلق كحشرة بجسم كل انتفاضة تعشقا منه للتهريج والظهور، المعرض، المهاجم، المتشكك، والمتشكك الذي يرجح أكثر ما يرجح، أخيرا، في كفة الأعراض. هل للتحفظ مبرر هنا؟ أجل، ما دام مدعو قصيدة النثر على جهل تام بها وإساءة إليها وإسفاف فيهم، يتصدرون الواجهة، وما دام لم ينقض على معرفتنا الجديدة بقصيدة النثر عامان، وما دام العطاء الحقيقي ضمنها، لا التقريبي والصدفي، لم يأخذ بعد طريقه إلى الناس. إننا نتحفظ لكن هل يحق لنا رفض الشيء قبل رؤيته؟ أليس انغلاقا على الذات وغرورا أحمق وموتا، أن نصرخ: "قصيدة النثر غير صالحة"و"قصيدة النثر ستموت" وليس بين يدينا نتاج للحكم؟ "الشعر" يقول قائل، هو الموسيقى كعنصر أول، والنثر خلو من الموسيقى التي يخلقها الوزن والقافية. موسيقى الوزن والقافية هي التي في الدرجة الأولى، تحث في القارئ الهزة الشعرية". لكن لا. موسيقى الوزن والقافية موسيقى خارجية، ثم أنها، مهما أمعنت في التعمق، تبقى متصفة بهذه الصفة: إنها قالب صالح لشاعر كان يصلح لها. وكان في عالم يناسبها ويناسبه. لقد ظلت هذه الموسيقى كما هي ولكن في عالم تغير، لإنسان تغير ولإحساس جديد. حتى في الزمان الذي كان زمانها، لم تكن موسيقى الوزن والقافية وحدها ولا أهم ما يزلزل القارئ. وقارئ اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه. ثم إن الشاعر يأتي قبل القارئ، لأن العالم المقصود هو من صنعه. والشاعر أعلم بأدواته، والشاعر الحقيقي لا يفضل الارتياح إلى أدوات جاهزة وبالية، تكفيه مؤونة النفض والبحث والخلق، على مشقة ذلك. والشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظا. إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمنا بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم، فلم يروا في تاريخ الشعر غير ما يؤيد رجعتهم ويحك العواطف القشرية للجماهير، وجعلوا يستخدمون المنطق- منطق اللغة والتراكم الأدبي وحاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية- وفقا لما يدعم نظرتهم المبتسرة إلى الأشياء إرادتهم البقاء حيث هم، وإنقاذا لأنفسهم من عجلات النهضة.

أي نهضة؟ نهضة العقل، الحس، الوجدان. ألف عام من الضغط، ألف عام ونحن عبيد وجهلاء وسطحيون. لكي يتم لنا خلاص علينا- يا للواجب المسكر!- أن نقف أمام هذا السد، ونبجه.

بين القارئ الرجعي والشاعر الرجعي حلف مصيري. هناك إنسان عربي غالب يرفض النهض والتحرر النفسي والفكري من الإهتراء والعفن، وإنسان عربي أقلية يرفض الرجعة والخمول والتعصب الديني والعنصري، ويجد نفسه بين محيطيه غريبا، مقاتلا، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية "النخبة" والرعاع على السواء. لدى هذا التشبث بالتراث "الرسمي" ووسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتاب العرب، أمام أمواج السم التي تغرق كل محاولة خروج، وتكسر كل محاولة لكسر هذه الأطواق العريقة لجذور في السخف، أمام بعث روح التعصب والانغلاق بعثا منظما شاملا، هل يمكن محاولة أدبية طرية أن تتنفس؟ إنني أجيب: كلا، إن أمام هذه المحاولة مكانين، فأما الاختناق أو الجنون. بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كي يسمع. ينبغي أن يقف في الشارع ويشتم بصوت عال، يلعن، وينبئ. هذه البلاد، وكل بلاد متعصبة لرجعتها وجهلها، لا تقاوم إلا بالجنون. حتى تقف أي محاولة انتفاضية في وجه الذين يقاتلونها بأسلحة سياسية وعنصرية ومذهبية، وفي وجه العبيد بالغريزة والعادة، لا تجدي غير الصراحة المطلقة، ونهب المسافات، والتعزيل المحموم، الهسترة المستميتة. على المحاولين، ليبجوا الألف عام، الهدم والهدم والهدم، إثارة الفضيحة والغضب والحقد؛ وقد يتعرضون للاغتيال، لكنهم يكونون قد لفظوا حقيقتهم على هذه القوافل التي تعيش لتتوارث الانحطاط، وها هي اليوم تطمح إلى تكريس الانحطاط وتمليكه على العالم.

أول الواجبات التدمير. الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لا بد. حتى يستريح لمتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانا، سوف يضيع وقتا كثيرا، لكن التخريب حيوي ومقدس.

هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر.

لكن هذا لا يعني أن الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر، إلا أنهما- والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر- عنصر أولي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع.

إلا أن قصيدة النثر ليست غنائية فحسب، بل هناك قصيدة نثر "تشبه" الحكاية، وقصائد نثر "عادية" بلا إيقاع كالذي نسمعه في نشيد الإنشاد (وهو نثر شعري) أو في قصائد شاعر كسان جون برس.

وهذه تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق، الرؤيا التي تحمل أو عمق التجربة الفذة، أي بالإشعاع الذي يرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذي تستوي القصيدة ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط. ولعلك إذا قرأت قصيدة من هذا النوع (هنري ميشو، انتونان أرتو..) قراءة لفظية، جهرية، للالتذاذ والترنح، لعلك تطفر وتكفر بالشعر لأنك ربما لا تجد شيئا من السحر أو الطرب.

التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة، ووحدة متماسكة لا شقوق بين أضلاعها، وتأثيرها يقع ككل لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ. ومن هنا ما قاله إدغار ألن بو عن القصيدة (أي قصيدة) إذا أنكر عليها أن تكون طويلة. إن كل قصيدة هي بالضرورة قصيرة، لأن التطويل يفقدها وحدتها العضوية. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق في النثر، لأن قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن حاجة إلى التماسك، وإلا تعرضت للرجوع إلى مصدرها، النثر، والدخول في أبوابه من مقالة وقصة ورواية وخاطرة..

لكن هل من المعقول أن نبني على النثر قصيدة ولا نستخدم أدوات النثر؟ الجواب أن قصيدة النثر قد تلجأ إلى أدوات "النثر من سرد واستطراد ووصف لكن، كما تقول سوزان برنار، " شرط أن ترفع منها وتجعلها "تعمل" في مجموع ولغايات شعرية ليس إلا" وهذا يعني أن السرد والوصف يفقدان في قصيدة النثر غايتهما الزمنية، يبطلان أدوات الروائي والخطيب والناقد توصلهم عبر تسلسل من الآراء والحجج إلى هدف واضح ومعين، إلى الحسم في شيء.

هنا العناصر النثرية تدخل في "كتلة لا زمنية" هي قصيدة النثر، وتغدو مجردة من وظائفها السابقة.

كل هذا بحاجة إلى تفصيل وتحديد أوضح لا يتسع لهما المجال. النثر وارتفاع مستواه كان، عندنا، التمهيد المباشر، ومما ساعد أيضا ضعف الشعر التقليدي وانحطاطه والإحساس بعالم متغير يفرض موقفا آخر، الموقف الذي يفرض الشكل على الشاعر. ثم هناك الوزن الحر، القائم على مبدأ التفعيلة لا البيت، الذي عمل منذ عشر سنين على زيادة تقريب الشعر من النثر. ونلاحظ هذه الظاهرة بقوة عند جميع الشعراء العرب الشيوعيين، والواقعيين، الذين اقتربوا من النثر لا في أسلوبهم ولغتهم فحسب بل في الجو والأداء، بينما نلاحظ عند فئة أخرى هي فئة شعراء "المستوى" اقترابا من النثر من حيث تبسيط الجملة والتركيب والمفردة، وتبقى التجربة أو الموقف في "عصمتهما" الفنية الصعبة.

هذه العوامل وسواها كالترجمات عن الشعر الغربي خاصة، جعلت بزوغ النوع الجديد ممهدا بعض الشيء، على صعيد الشكل بالأقل، وإن لم تتهيأ له الذواق حتى الآن التهيؤ الطبيعي.

يحتاج توضيح ماهية قصيدة النثر إلى مجال ليس متوافرا. وإنني استعير بتلخيص كلي هذا التحديد من أحدث كتاب في الموضوع بعنوان "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" للكاتبة الفرنسية سوزان برنار.

لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقا لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجار (أو الاختصار) التوهج، والمجانية. فالقصيدة، أي قصيدة، كما رأينا، لا يمكن أن تكون طويلة، وما الأشياء الأخرى الزائدة، كما يقول بو، سوى مجموعة من المتناقضات. يجب أن تكون قصيدة النثر قصيرة لتوفر عنصر الأشراق، ونتيجة التأثير الكلي المنبعث من وحدة عضوية راسخة، وهذه الوحدة العضوية تفقد لازمنيتها إن هي زحفت إلى نقطة معينة تبتغي بلوغها أو البرهنة عليها. إن قصيدة النثر عالم "بلا مقابل".

وفي كل قصيدة نثر تلتقي معا دفعة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضا على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الآن تلك التي طالب بها رمبو حين أراد "العثور على لغة (…) تختصر كل شيء، العطور، الأصوات، والألوان"، وبودلير، عندما قال أنه من الضروري استعمال شكل "مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان" إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع، والغل. انتفاضة فنية ووجدانية معا، أو إذا صح، فيزيقية وميتافيزيقة معا. لكن هذه الفوضوية كانت لتبقى بجناح واحد عند رمبو لو لم يعطها الجناح الآخر: الهيكل. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة. هذه الملامح تسمح لا بتبين النوع الجديد فحسب بل كذلك بتجنب ما ليس قصيدة نثر. على أن ثمة وجوها نسبية ظهرت وتظهر متبدلة وفقا للتطور، وهذا التبدل هو من ضمن ما توفره قصيدة النثر من حرية شاسعة وإمكانات لا تنحصر في عمل الخلق وطلب اللانهائي والمطلق.

لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وحكاية، وقصيدة وزن تقليدي، وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر. لا نريد ولا يمكن أن نقيد قصيدة النثر بتحديدات محنطة. أن أهميتها لا بالقياس إلى الأنظمة المحافظة في الشعر وحسب بل بالقياس إلى أخواتها من الانتفاضات الشعرية كالوزن الحر، إنها أرحب ما توصل إليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في آن واحد.

لقد خذلت كل ما لا يعني الشاعر، واستغنت عن المظاهر والإنهماكات الثانوية والسطحية والمضيعة لقوة القصيدة. رفضت ما يحول الشاعر عن شعره لتضع الشاعر أمام تجربته مسؤولا وحده وكل المسؤولية عن عطائه، فلم يبق في وسعه التذرع بقساوة النظم وتحكم القافية واستبدادها، ولا بأي حجة برانية مفروضة عليه. ومن هنا ما ندعوه القانون الحر لقصيدة النثر. فعناصر الإيجاز والتوهج والمجانية ليست قوانين سلبية، بمعنى أنها ليست للإعجاز ولا قوالب جاهزة تفرغ فيها أي تفاهة فتعطي قصيدة نثر. لا إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية وموقفه من العالم والإنسان. وهذه "القوانين" نابعة، كما يخيل إلي من نفس الشاعر ذاته. لقد استخلصت من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورؤي، بعد كل شيء، إنها عناصر "ملازمة" لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مخترعة لقصيدة النثر كي تنجح.

لكن حتى هذا الانسجام بين الشروط والشاعر ليس نهائيا. ليس في الشعر ما هو نهائي. وما دام صنيع الشاعر خاضعا أبدا لتجربة الشاعر الداخلية فمن المستحيل الاعتقاد بأن شروطا ما أو قوانين ما أو حتى أسسا شكلية ما، هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال. القاعدة القديمة: العالم لا يتغير، باطلة. ومثلها جميع المواضعات المتعلقة بالإنسان. الشاعر ذو موقف من العالم. والشاعر في عالم متغير، يضطر إلى لغة جديدة تستوعب موقفه الجديد. لغة "تختصر كل شيء" وتسايره في وثبة الخارق الوصف إلى المطلق أو المجهول. أقل عقدة شكلية تعطل انطلاقه وتحرف وجهته. أبسط هم خارجي يسرق من وحدة انصبابه على الجوهر.

وأخطر من ذلك كل العقد والسنن حين تكون جاهزة، وذات تراث طويل، أي ذات قوة أقدر على إيقاع الشاعر في حبائلها بما لها من إغراء (إغراء الراحة) ومن سلطان (سلطان التراث الطويل). وهذا ما يحدث للشاعر العربي مع الوزن والقافية وشعره القديم، وقطع هذه المرحلة يقتضي جهدا فائقا لا من أجل الرفض النظري لها فقط بل كذلك النجاح في التخلص من رواسيها، ورواسبها شكلية وضمنية. وإذ يجتاز الشاعر عقبة العالم الميت يفر من الأقماط. غير أن أبواب الشعر الصافي، عالمه الجديد الذي عاد إليه، لا تنفتح أمامه ما لم يحسن مخاطبتها، أو هي، إذا انفتحت، لا بد للشاعر أن يضيع في الداخل ما لم يكن يعرف تبين عالمه وبلورته. اللغة.. أنه في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها. لغة الشاعر تجهل الاستقرار لأن عالمه كتلة طليعية.أجل في كل شاعر مخترع لغة. وقصيدة النثر هي اللغة الأخيرة في سلم طموحه، لكنها ليست باتة. سوف يظل يخترعها. ما يسمونه الأزمنة الحديثة هو انفصال عن زمن العافية والانسجام. إنه تكملة السعي الذي بدأ منذ قرن لا من أجل تحرير الشعر وحده بل أولا لتحرير الشاعر. الشاعر الحر هو النبي، العراف، والإله. الشاعر الحر مطلق، ولغة الشاعر الحر يجب أن تظل تلحقه. لتستطيع أن تواكبه عليها بالموت والحياة كل لحظة، الشاعر لا ينام على لغة.

شاعر قصيدة النثر شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنسانا حرا، أيضا تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشوش والنظام معا. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي.

نكتب لتقطع مرحلة، وما نكتبه يطوى، يحرق، ما لم نكتبه ولم نعرفه ولم نغص بعد فيه، هو الهم.

يجب أن أقول أيضا إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على أرث الماضي. إنه غاز. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر. لكن قصيدة "النثر" التي هي نتاج ملاعين، لا تنحصر بهم. أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين، بين مبارك ومعافى. الجميع يعبرون على ظهر ملعون.

نحن في زمن السرطان. هذا ما أقوله ويضحك الجميع. نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة "النثر بنت هذه العائلة.

نحن في زمن السرطان: نثرا وشعرا وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره.

خريف 1960.


المصدر:

 نظرية الشعر/ 5- مرحلة مجلة شعر - القسم الثاني: مقالات/شهادات/ مقدمات - تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب. منشورات وزارة الثقافة - دمشق،1996 (عن) مقدمة ديوان (لن) أنسي الحاج، ط2، المؤسسة الجامعية - بيروت 1982. صدرت الطبعة الأولى للديوان عام 1960.






الأربعاء، 6 أبريل 2022

المنحى الجمالي في ديوان الملح يلفظ ليله


لها: (في القصيدة مشيٌ أنيق

يمدّ سناهْ).

والمشي هو السيرة والمسيرة والأثر. الأثر الذي تتركه شاعرة تدعو للحب والحياة وتنطق عنهما شعرا وسحرا مُغنّى. أما الأناقة فهي المبنى الذي يتثنى بالمجاز والرمز فيتجلى بعد إبهام وغموض وتتبدى صوره الشعرية كالصحو بعد غيم ،وهي التي تقول: (أنا في المجاز أرطّب صوتي

فينشق نايٌ

وينمو نخيلُ).

تضعنا: في مواجهة مع ثنائيات وأقطاب، تنافر وتقارب، الصمت والبوح، العشق والرغبة. وتحثنا على البحث عن جهة خامسة بوصلتها ثابتة لا تتغير وعن أرض يتقيأ ملحها ليله  متخليا عن سواده الكامن وشوائبه. لكن أين هذه الجهة الخامسة وأي الطرق تؤدي إليها ؟ السؤال جوابه لدى من انتطقت القصيدة ومن أضاءت حيرتها دروب الشعر  فكان الديوان (الملح يلفظ ليله)  حجة وبرهان الشاعرة أسماء رمرام على  أن الحب  هو الوجهة الخامسة لمن لم يهنأ بالجهات الأربع الباقيات. الجهة التي تمثل الملاذ الآمن للإنسان الكوني الذي وإن بدا مختلفا فإن جوهره لا تعيقه الاختلافات ولا تحجبه حدود قد توضع كحواجز تمنع  إنسانيته عن الإنطلاق والعيش كما ينبغي لها أن تحيا في عوالم من الحب الكوني. ويبدو أن الشاعرة أسماء رمرام في ديوانها  هذا قد أرست قواعدها الثابتة على رُبى تلك العوالم وبدأت تخبرنا عنها في نصوصها فجذبت قارئها الى مجرتها المشفرة وحرضته على كشف أسرارها في متعة المتلهف للامتلاء الدائم ذاك الامتلاء الذي تحسنه وتبلغه  الروح فقط وتنثره حولها فيختفي كل ماهو مادي وان وجد بمسمياته.

إن النص المختلف الناجح كما أسلفنا هو الذي يترك في قارئه أثرا لا ينتهي بالانتهاء منه وإنما يحلو الرجوع إليه وإعادة قراءته للحفاظ على منسوب المتعة بالنفس أو استرجاعها، وقد كتبت أسماء رمرام نصها وهي شديدة الوعي بذلك خاصة وأن ديوانها (الملح يلفظ ليله) هو الثالث أي أنه كتب في مرحلة نضج أسلوبي ومعرفي للشاعرة وقد كان جليا جنوحها المقصود الى التحديث بأسلوب ذكي، يقوم في بعض النصوص  على مزج تفعيلات البحور ودوائرها في العروض مزجا في حالة وزنية غير عروضية  يصنع إيقاعا جديدا لاتنفر منه الذائقة المدربة على البحور ونسقيتها ولكنه يفجر القيود الصارمة التي تلزمه بعددٍ تواترا وتتاليا. وفي هذا المزج في قصيدة "الملح يلفظ ليله" مثلا  يميل إلى المتقارب ووزنه (فعولن فعولن فعولن فعو(ل)(ن)) وهو مزج فني بين قديم مألوف وجديد يسعى إلى توطيد أركانه دون أن يهدم المعبد بكامله فيبنى النص على قاعدة  الأوزان القديمة وبنية إيقاعها حديث.

أما نصها "جروح الروي" فيبرز  قلق الإيقاع العروضي (الوزن) تشده القافية (الروي) كأن النص بني أصلا على رويه (الياء مع الفتحة الطويلة عادة فهي لازمة الإيقاع يعود إليها النص ليشد أركانه لفظا ومعنى وإيقاعا فالإيقاع في تكراره وتردده على مسافات مختلفة  ومعنى بالعودة إلى المتكلم عادة (إليّ عليّ شفتيّا ..).

وتعود بنا أسماء رمرام إلى رقصة الروح والتثني في نصها "تعال" الذي يترك الأوزان بقيودها باحثا عن خفة الإيقاع الداخلي النفسي بعيدا عن إيقاعات النص الظاهرة وإن كانت تلوح في بعض الارتكاز على روي يتردد بين حين وآخر (النعال / الخيال/ السؤال /الرمال). نصها هذا  يقف بين شعر التفعيلة (بدايات الشعر الحر) وقصيدة النثر، مما يجعل القارئ  يعيش الحالة التي تشعره بها الشاعرة في كثير من الدهشة والوعي.


هذه المحرضة على الحب هي شاعرة لها من الكلمات الغائرات ما يكشف أسرار رقصة الروح وإن قالت في نصوصها غزلا فلا أظنها تسقط في ما يعنيه ظاهر معنى الكلمة بل المؤكد أنها تستخدم هذا الغرض فيما هو أسمى وأكثر علوا. ولنا في نص "أشواق الريق" مثال فهذا النص، نص من بحر الكامل  وقافيته الكاف وتفعيلات الكامل هي متفاعلن متفاعلن متفاعلُ(ن) وهو مكتمل كمالا شعريا من جهة وزنه وإيقاعه المتناسق  مع المضمون فيه معاني الغزل وتعبير عن الحب بعواطفه المتأججة وبوح بالشوق الحارق القاتل وفيه معنى التعطش للوصل (القبلة: من أي نهر ترتوي شفتاك) وبين حروفه التعبير المباشر عن الشوق وخوف البعد والتحول إلى حب جديد (قل لي بربك هل تعود لوصلها

 أم في الغياب تغيرت عيناك). بهذا البيت حرارة الشوق ومرارة الحيرة  وقلق البعد وضنى الهجر مع رغبة شديدة في الوصل واللقاء فالعاشقة تتلظى على نار الحيرة ونار الشوق وينكشف هذا المضمون في صيغ تخالف المألوف من الغزل فالمخاطب مذكر لا مؤنث وما عرف الغزل بالمذكر إلا في حالتين أن يكون الشاعر رجلا أو حالة  من أحوال المتصوفة الذين يناجون الخالق روحا كونية يطلبون فيها حلولا ومعها اتحادا وكلنا يعلم أن ابن عربي ترجم شطحه الصوفي وتوقه للروح الكونية في غزل رقيق ،وبالتالي فإن حالة العشق في نصوص الشاعرة تضاهي في عمقها وقوتها  العشق الصوفي والحب كما قال  نزار قباني "تصوف وعبادة ". ولعل جرأة شاعرتنا وتفجيرها لقانون الصمت (لنا في الحكاية صمتٌ شفيف

ولي في الحقائب أسلوب أنثى)

 الذي يمنع المرأة عادة عن البوح بمشاعرها الصادقة يخبرنا عن رؤاها المختلفة عن الحب والحبيب فهو الكمال والمثال ( تعال توسّد زنود الفراشة

 إن حلّقت، رفعتك ملاكا) والمثال هو  المعنى الخالص للصفاء وللجمال لذلك اتحد المبنى والمعنى في قصائد (الملح يلفظ ليله) للوصول بنا إليه وليزيدنا قناعة أن قصائد الديوان كتبت لتكون على مبدأ أسلوبي مهم وهو أن الجمال روح الشعر فلا بد إذن أن تجتمع كل عناصره بين الكلمات وليس هناك أبلغ من الإحساس الذي يعطيه الحب والجمال للشاعر. لذلك يمكننا القول أن أسماء رمرام امتلكت الشعر بعد أن امتلكت مفاتيح الإحساس العالي بالجمال حولها فكان الاختلاف الذي صنع منها الشاعرة أسماء رمرام ،بعد أن خبرت قدامة أوزان الخليل في نص وشعر التفعيلة في أكثر من نص إما بالتصرف في الوحدة الإيقاعية (فعولن ) أو في مزج التفعيلات العروضية والمراوحة بينها (مفاعلتن وفعولن) وهما تفعيلتان نجدهما في وزن واحد عند الخليل هو وزن بحر الوافر ونجد أعلى جانب هذين اللونين الإيقاعيين إيقاعا ثالثا هو توقيع قصيدة النثر المتحرر الذي لا يراعي توازيا في الكم الصوتي الإيقاعي ولا في تواتر المقاطع البانية للتفعيلة ولكنه يشد أواصر النص بإيقاع بعيد هو الروي الذي كان جريحا في أحد قصائدها بداية من عنوانه.


-نائلة الشقراوي-

أستاذة أدب مقارن